كشفَ الروائي التونسي الحبيب السالمي عن موهبة أدبية متمكنة من عناصر الصنعة الروائية، التي تجعل الكاتب يختار لهواجسه في الحياة والوجود والتاريخ والواقع الشكل السردي المناسب، لتحويلها إلى عمل فني حافل بعناصر الإيحاء والمتعة. بعد نشر الكاتب لعدة روايات، من بينها «عشاق بية» و«أسرار عبد الله»، الصادرتين عن دار الآداب، يعود حديثا ليصدر عن الدار نفسها روايته الجديدة «روائح ماري كلير» (2008)، التي استطاعت أن تنفذ إلى كتب القائمة الصغيرة لجائزة البوكر العربية (خمس روايات)، في دورتها الأخيرة، التي ذهبت عن جدارة واستحقاق إلى الروائي والباحث المصري يوسف زيدان عن رائعته «عزازيل». رواية «روائح ماري كلير» تعرض بأناة تفاصيل قصة حب، جمعت بين محفوظ، القروي التونسي، في إقامته الباريسية، وبين موظفة البريد، الفرنسية ماري كلير، المرأة الرقيقة المولعة بالأشياء الرمزية وباقتناص متع الحياة، على نحو يجعل اليومي زمنا، ينفلت منه ما يجعل العيشَ فسحة لذيذة من المرح والألفة والاكتشاف. تبدأ الرواية بسرد تفاصيل تناول العاشقين لفطور الصباح، الذي تحول إلى طقس يومي يحرصان عليه بعد الاستحمام، فيكون فطورا بطيئا، في أيام العطل، تتخلله نظرات صامتة، واستيهامات جسدية، بعدها تنسحب ماري بهدوء، فتجمع الأواني وتسقي نباتات النافذة، فيما يغرق محفوظ في أحلام يقظة، مستنشقا روائح الطفولة، مستعيدا حدثَ موت أمه وكيف سُمح له وهو طفل بمصاحبة الكبار وكيف أغرقته النساء الباكيات في قبلات جعلته يشعر، في ذلك اليوم الحزين، بفرح لم يعرف مثله أبدا في حياته. تعرف محفوظ إلى ماري في مقهى مقابل لحديقة اللكسمبورغ، كان قد دخله صدفة لأجل تناول القهوة والقراءة. رآها أول مرة في المرآة المقابلة لطاولته، فأعجب بهدوئها وبطريقة تحريكها للمعلقة، ثم بعنقها الطويل وبذلك النمش الذي يغطي وجهها المدور. استدار محفوظ ليسند ظهره إلى زجاج المقهى، فالتقتِ العيون فتبادلتْ ابتسامة متواطئة. حينها لم يعرف محفوظ كيف خرجت الكلمات من فمه بسهولة. ضحكت ماري لكلامه، فانتبه إلى أن المرأة يكسو ضرسها طبقة رقيقة من الذهب، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها ذهبا في فم أوربي، وذلك بعد أن أمضى تسع سنوات بباريس، قضى خمسا منها في الدراسة، إلى أن حصل على الدكتوراه، فلم يشأ العودة إلى تونس خوفا من الاحتجاز، فواصل العمل الليلي في أحد الفنادق المملوكة لرجل جزائري، وذلك بموازاة مع ساعات تدريس في الجامعة. بعد لقاءات متعددة في المقهى، دعا محفوظ ماري إلى زيارة شقته، لكنها أصرت عليه ليزور غرفتها أولا، فوجدها جميلة، تنم عن ثقافة وذوق. هي كذلك وجدت شقته جميلة وواسعة، لكنها عندما تلقت دعوته إلى الإقامة معه، ترددتْ، قبل أن تحسم موقفها وتجيء بأشيائها ومقتنياتها القليلة إلى بيتها الجديد. غمرت السعادة قلب محفوظ، الذي أصبح محفوفا، لأول مرة، بجسد امرأة وبروحها وعطرها الذي يغمر المكان. تغيرتْ عاداته، فأصبح يستحم ويغير ملابسه الداخلية كل يوم، كما أقلع عن متعة دس إصبعه في أنفه، ولم يعد يتجشأ أو يضرط بحرية وأينما شاء. أصبح كثير الإصغاء إلى ماري، سريع الاستجابة إلى طلباتها، وانتهى إلى تكييف كل متعه البيتية مع متعتها ونظام حياتها. بعد شهور غيرت ماري كل ما في الشقة من أثاث، بحثا عن «جمال أكثر بساطة وأقل بروزا». في تلك الأثناء، كان محفوظ قد بدأ يدرب ماري على طريقة نطق اسمه بشكل صحيح. تعمقت العلاقة بين الإثنين، وطلبت ماري من محفوظ الكف عن العمل في الفندق بالليل، ليضفي على حياتها أنسا أكبر، فهي في حاجة إلى مقاسمته فسحة أوسع من متعة العيش المشترك. استجاب محفوظ لطلبها، واستطاع بسهولة أن يتبادل مع زميل له المهام، مستفيدا من تقدير صاحب الفندق لشخصيته كدكتور، فأصبح يحرص على العودة مبكرا، لينتظر ماري، متمتعا بفرحها وبقبلاتها الغامرة، وبفوضاها الصغيرة وهي تتحرر من لباس الخارج، قبل أن تنظم كل شيء. بعدها تسأله ماري عن تفاصيل يومه، سواء أقضاه في العمل أو في البيت، فتنصتُ باستمتاع، قبل أن تروي له بدورها تفاصيل نهارها. فيبدي لها اهتماما مصطنعا، يجاهد خلاله نفسه حتى لا تنفجر ضحكته المكتومة. وفي بعض الأحيان تبدي ماري رغبتها في تناول الطعام والتمتع بالليل خارج البيت، فكان يوافق مضطرا، لكنه أصبح، مع الوقت، يجد متعة في الذهاب معها إلى السينما، مثلما يجد متعة في تدريسه لتجربة الشعراء الصعاليك، التي حدثها عنها عندما تمكن من الحصول على مقعد رسمي في الجامعة، دون أن يستغني عن عمله في الفندق. كثيرا ما كانت ماري تدفع محفوظ إلى استحضار طفولته وماضيه وخصوصا علاقته بوالدته. كانت تجدُ في شيطنات الطفل وحركاته الجنسية في حق الحيوانات، وتضحيات الأم وقساوة الأب، متعةً تعرض أمامها ثقافة إنسانية مغايرة، مليئة بعناصر الإثارة، بالرغم مما يحف بها من أشكال الفقر والحرمان بل وحتى الخطر. بدورها كانت ماري تحكي له كثيرا عن والدها، الأنيق، الذي أحبته كثيرا، في مقابل نفورها من أمها العجوز، التي كانت حتى ذلك الحين تقيم في القرية، والتي بعثتْ في طلبها يوما، عندما ازداد مرضها، فقضت معها أسبوعا كاملا، جعل محفوظ يتحرق لرؤيتها، بالرغم من بعض عناصر الغيرة التي كانت قدْ بدأت تتسرب إليه، محدثة له آلاما كبيرة. غيرة ستتفاقم، عندما سمحتْ ماري لنفسها مرة بمراقصة رجل في أحد الملاهي، متعمدة بذلك إلحاق الأذى أكثر بنفس محفوظ، عقابا له على ما بدر منه من نظرات داعرة تجاه أمرأة متغنجة داخل أحد المطاعم وعندما بدأ محفوظ يتعمد التأخر مساء في الخارج، عاقبته بالمبيت أكثر من ليلة خارج البيت. ازداد حنق محفوظ، فقصد في إحدى الأماسي، وهو مخمور، بيت المومسات، فكانت له مع واحدة عربية مغامرة فاشلة، فعاد شديد النفور إلى البيت. أصبحت ماري تشمئز من سكره ورائحته، وصارت تتجنبه على الفطور والعشاء، ثم بلغت القطيعة بينهما حلقتها النهائية، عندما حاول اغتصابها، فكورتْ ماري في وجهه كل الشتائم العربية النابية، التي كانت قد تعلمتها في زياراتها القليلة لتونس. ثم قررت يوما جمع حقائبها والانصراف. حينها وجد محفوظ المكان موحشا وخاليا، إلا من طبقة رقيقة من الغبار وبضعة أوراق سقطت من النبتة، هدية ماري التي لم يحسن محفوظ رعايتها. لا تعرض رواية «روائح ماري كلير»، على لسان محفوظ السارد، على نحو صريح، لإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب من خلال قصة حب، كما جرت العادة في كثير من الروايات العربية، وإنما تؤكد تحديدا على هشاشة تجربة الحب، التي تجمع بين شخصين مدعوين إلى المؤالفة بين رغباتهما المتباينة وبين إيقاعهما المختلف، ليس فقط في تدبير المنسوب اليومي من الزمن، وإنما أيضا في فتح سجل الذكريات، وفي تدبير الفارق الهش بين الالتزام والحرية، الوفاء والرغبة في العلاقات الشخصية. إنها قصة حب، ولكنها أيضا قصة أغوار لا تُدرَك في النفس البشرية.