سجلت مجموعة العمل الوطنية لمساندة العراق وفلسطين والجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني وفعاليات المؤتمرات القومية الثلاثة بالمغرب، في ندوة صحفية مشتركة بالرباط يوم 7 شتنبر 2009، أن بعض الأحداث التي طفت على السطح تبعث على القلق بخصوص احتمال وجود نية رسمية لمضاعفة أوجه خرق الالتزام العربي بمقاطعة إسرائيل، وللتطبيع الكامل معها. وعرضت خلال الندوة الصحفية المشار إليها نماذج من الوقائع المقلقة، ومن ذلك مثلاً: - وجود مواد غذائية إسرائيلية في الأسواق المغربية؛ - تداول أخبار صحفية عن ارتفاع حجم المبادلات التجارية بين المغرب وإسرائيل؛ - مشاركة الملحق العسكري المغربي بواشنطن في حفل توديع الملحق العسكري الإسرائيلي ببيته؛ - ذيوع أنباء عن ارتفاع نسبة السياح الإسرائيليين الذين يزورون المغرب؛ - حديث عن احتمال مشاركة المغرب رسمياً في مناورات عسكرية ينظمها حلف الناتو وتتم بحضور عسكري إسرائيلي؛ - تردد أنباء عن قبول المغرب ودول عربية أخرى فتح أجوائها في وجه الطائرات الإسرائيلية التي سيُسمح لها بالعبور؛ - سريان الكلام عن إمكان فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي من جديد في المغرب. هل يتعلق الأمر ببالون اختبار لمعرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه ردود الفعل إزاء الخطوات التطبيعية مع إسرائيل والتصرف على ضوء ذلك، أم إن الأمر جدي والعزم معقود، في جميع الأحوال، على تمكين إسرائيل، مرة أخرى، من هدايا مجانية قبل أن تجف دماء الأبرياء في غزة، وفي ظرفية تزايد فيها إجرام آلة الدمار الصهيوينة التي فتكت، خلال الثلاث سنوات الأخيرة فقط، بآلاف من الأطفال والشيوخ والنساء المدنيين، والذين دك القصف الإسرائيلي بيوتهم على رؤوسهم (مجازر لبنان وغزة) بدون احترام لأدنى المشاعر الإنسانية أو اعتبار للمواثيق والالتزامات الدولية. ويظهر أن رسالة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى العاهل المغربي لا تكتفي فقط بالدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل وفك عزلتها، بل تضع على عاتق المغرب مهمة القيام بدور ريادي بهذا الصدد، وحمل دول أخرى على السير في نهج التطبيع بدون أي مقابل ذي اعتبار أو قيمة؛ فالرسالة المشار إليها تخاطب الملك محمد السادس قائلة: «ويمكنكم، بصفتكم رئيسا للجنة القدس، أن تساهموا في جعل أعضائها يعملون بشكل بناء من أجل تحقيق أهدافنا المشتركة. وإنني لواثق من أنه يمكننا العمل سوياً بهدف إرساء أسس مفاوضات مثمرة لفائدة السلام لكل شعوب المنطقة»، وتضيف الرسالة: «ويتعين على البلدان العربية أن تعتمد على التزام مبادرة السلام العربية، للقيام بخطوات إزاء إسرائيل تصب في اتجاه وضع حد لعزلتها في المنطقة. إنني آمل أن يكون المغرب، كما كان في السابق، رائداً في النهوض بالمصالحة بين إسرائيل والعالم العربي». وتتحدث وسائل الإعلام عن الدول المرشحة لتنفيذ خطوات تطبيعية جديدة مع إسرائيل، وهي المغرب وقطر وتونس وسلطنة عمان. وتقوم الدعوة الأمريكية على أساس أن إسرائيل تستحق التطبيع الشامل معها من طرف البلدان العربية كافة، إن هي عبرت عن «حسن نيتها»، من خلال قيامها فقط بتجميد الاستيطان في رقعة محددة، ولفترة محددة، وقبولها استئناف المفاوضات، وتكون بذلك قد حققت إنجازاً رائعاً يجب أن يُقابل بمنحها كل زهور وورود الدنيا شكراً وامتناناً. إذن، مطلوب من المغرب -ودول عربية وإسلامية أخرى- أن ينتقل إلى بناء علاقات طبيعية ومتينة مع إسرائيل، حتى بدون قيام الدولة الفلسطينية، أو بقيام كيان فلسطيني بلا ملامح دولة ولا مقومات الدولة، أو بقيام دولة غير قابلة للحياة، بأرض مفككة ومسيجة ومخترقة؛ ومطلوب من المغرب أيضاً أن يعتبر أن الظرف موات لمد جسور المودة والتصالح مع إسرائيل حتى بدون ضمان حق العودة، وبدون القدس عاصمة لفلسطين، وبدون تحرير الأسرى، وبدون هدم المستوطنات والجدار، وبدون سحب مظاهر فرض الأمر الواقع على القدس التي تكرس عزلها وتهويدها بشكل أبدي؛ ومطلوب من المغرب أيضاً أن يسلم رسمياً بأن عملاً إجرامياً رهيباً كمحرقة غزة لا يستدعي في العلاقات بين شعوب وأمم القرن الواحد والعشرين أي جزاء أو تبعات، وأن سياسة الحصار والانتقام وتجويع السكان الأبرياء والعقاب الجماعي ونشر القتل والرعب والدمار بين المدنيين لا تفرض على مقترفيها أي وجه للمحاسبة والمساءلة، كأننا في كوكب بلا قوانين ولا هيئات إنسانية ولا قيم ولا التزامات ولا مواثيق. هناك من سيعتبر أن الخضوع لنهج التطبيع يمكن أن يكون اختياراً سليماً ووجيهاً، بالاستناد إلى ثلاثة اعتبارات أساسية: - الاعتبار الأول، ويقوم على كون التطبيع هو بمثابة بذل إشارة إيجابية إلى إسرائيل، يمكن أن تشجعها على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين والجنوح إلى السلم والكف عن العدوان وانتهاك بنود الشرعية الدولية، وأن التطبيع يمثل تنازلاً مراً لا بد من بذله من أجل السلام، ولسد تذرع إسرائيل بكونها تعاني من العيش داخل طوق من الكراهية المستحكمة في مجتمع عربي يرفض السلام من حيث المبدأ ويتربص بها باستمرار، وأن التطبيع وسيلة لكسب الغرب في صفنا وإقناعه بجديتنا وبصدق نوايانا. الرد على هذا التوجه بسيط، فلقد تم تجريبه ولم يفض إلى نتائج عملية. فبعد مبادرة السلام العربية والتزام الدول العربية بحسم خيار السير في طريق السلام الدائم، حتى ولو كان أدنى مما تتيحه الشرعية الدولية للشعوب والأمم، وبعد تعدد أشكال «الانفتاح» العربي على إسرائيل التي تتالت وتتابعت وتعددت، ولم تمنع إسرائيل من الإمعان في جرائمها ودمويتها، فإن أدنى ما يمكن أن تقوم به البلدان العربية والإسلامية هو استعمال سلاح المقاطعة والتراجع عن كل الخطوات التطبيعية للضغط على إسرائيل وحملها على الخضوع للشرعية الدولية. في السياق الحالي، أصبح التطبيع بكل بساطة تفريطاً في الحقوق واستسلاماً أمام قوى البغي والقهر والعدوان؛ - الاعتبار الثاني، ويقوم على أن أمريكا تملك 99 % من أوراق حل قضية الصحراء، وأن محاباتها والانصياع ربما لإملاءاتها سيحول المغرب لديها إلى صديق ذي أفضلية فتمانع في تزكية أية خطة تناقض مصالحه الحيوية حرصاً منها على صلابة جبهة حلفائها. إن هذا المنطق سبق أن تبناه الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي كان يردد أن أمريكا تملك %99 من أوراق حل قضية الشرق الأوسط، فقدم كل التنازلات المطلوبة منه ولم تُحل القضية. صحيح أن المحيط الدولي أصبح يمارس على بلداننا ضغوطاً أكبر من الماضي، وصحيح أن أمريكا تملك تأثيراً قوياً في الساحة الدولية، إلا أن النظام الجزائري ربما قد يكون مستعداً ليدخل مع نظيره المغربي في مزايدة لا نهاية لها حول الأقدر منهما على إسداء الخدمات إلى أمريكا بغاية استخلاص مقابل سياسي، فهل يقوى نظامنا على هذه المزايدة وملاحقة إيقاعها وتحمل كلفتها السياسية على المستوى الداخلي. وفي جميع الأحوال، فإن 99 % من أوراق الحل توجد بين يدي مواطنينا الصحراويين، فاقتناعهم بعمق وفاعلية الإصلاحات التي يدخلها بلدهم وتأثيرها الإيجابي عليهم وإيمانهم بجدوى الحلول التي يطرحها بلدهم ومشاركتهم في صياغتها، لهو أكبر ذخيرة ومدد في هذه المعركة، كيفما كان اتجاه الأحداث. ثم إن الانخراط في بناء المغرب العربي انطلاقاً من قواعده الشعبية الحية كفيل بإقبار الحسابات الصغيرة لقيادات غارقة في القطرية الضيقة في زمن التكتلات التي تفرضها العولمة؛ - الاعتبار الثالث، ويقوم على أن المغرب محتاج اليوم إلى لعب دور أكبر في قضايا الشرق الأوسط وإلى استعادة بعض من حيويته الماضية، وهذا يقتضي أن تكون علاقته جيدة مع كل الأطراف، وبالتالي ضرورة مد جسور العلاقات الطبيعية مع إسرائيل. إن الحسن الثاني رحمه الله، ورغم أن نقطة ضعف مقاربته الدولية هي التصريح بانخراطها في منطق الانحياز إلى نادي «العالم الحر» آنذاك، فإنه مع ذلك حافظ إلى حد ما على خصال الاستقراء، والواقعية، والتوازن. فكان يحاور قادة من إسرائيل أحياناً، ولكنه أرسل جنودا لمحاربتها عندما تطلب منه الواجب القومي ذلك، وبذل جهوداً مشهودة من أجل لمّ الصف العربي وحل الخلافات وجمع القمم، وأخذ بعين الاعتبار، في الكثير من الأحيان، مواقف شعبه ونخب بلده حتى لا يصطدم بالشعور الشعبي العام بشكل مباشر وحاد. ثم إن غاية ما كان يحلم به الحسن الثاني هو أن يرى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على مائدة مفاوضات شاملة، وهذا ما تم فعلاً بواسطة اتفاق أوسلو. الوضع، اليوم، يتطلب -في نظرنا- رفض كل أشكال التطبيع مع إسرائيل كسلاح سلمي من أجل السلام، وهذا أضعف الإيمان.