على امتداد شهر رمضان الأبرك، تفتح «المساء» أدبيات مؤسسات دور الرعاية الاجتماعية التي كانت تعرف ب«الخيريات»، بكل ما في هذه التسمية من حمولات قدحية، في محاولة للكشف عن الجانب المشرق لهذه المرافق، وتتبع الممرات الوعرة التي سلكها «وليدات الخيرية» في مسيرة الألف ميل، قبل أن ينتفضوا ضد الفقر والحاجة ويحجزوا لأنفسهم موقعا يمنحهم مكانة اعتبارية داخل المجتمع. من المفارقات الغريبة في أدبيات دور الرعاية الاجتماعية، أو ما كان يعرف ب«الخيريات»، أن تنجب هذه الفضاءات المرتبطة في الخيال الشعبي المغربي بالحزن والأسى عباقرة في الطرب والفكاهة وكل مجالات الإبداع الفرجوي، فالطفل الذي كان بالأمس يصادر في دواخله الغم والحزن والآهات، ويعتقل في عينيه دموعه، أصبح حين اشتد عوده واحدا من منتجي ومصدري الابتسامة إلى شعب كامل، بل إلى شعوب أخرى. ومن المصادفات العجيبة أيضا أن ينجب ميتم الدارالبيضاء نخبة من نجوم الطرب، وكأن القدر شاء أن يكون مقر الجمعية الخيرية البيضاوي بمنطقة الأحباس مشتلا خصبا للعديد من الكفاءات الموهوبة في عالم الموسيقى والطرب. بعد سلسلة من التمارين الشاقة والبروفات الطويلة، ظهرت ملامح جوق بكل مقوماته داخل أسوار المؤسسة الخيرية، فاتسعت شهرة جوق الميتم كما كان يطلق عليه في بداية تكوينه، بفضل العمل الجاد الذي كان يقوم به المدرس محمد زنيبر رحمه الله، وبفضل المواهب الناشئة التي يزخر بها، ولاسيما أنه كان يتكون من أسماء شقت طريقها بقوة في المجال الموسيقي كعازف القانون صالح الشرقي والمختار المذكوري والإخوة الطالبي أبو بكر وعبد السلام وعبد الحميد ثم محمد سميرس وغيرهم من الكفاءات التي كانت تتلقى بين الفينة والأخرى دعوة لحضور حفلات بالقصر الملكي الذي لا يبعد إلا بأمتار قليلة عن مقر الجمعية الخيرية الإسلامية. في مسار عازف القانون الفنان الكبير صالح الشرقي محطات عديدة في سلاوالدارالبيضاء وباريس وغيرها من التوقفات التي ساهمت في بناء شخصيته، لكن محطة ميتم الدارالبيضاء كان لها دور كبير في انخراط صالح في عالم الموسيقى. تقول شهادات رفاقه في الميتم إنه كان منذ نعومة أظافره هادئا، حريصا على التركيز على ما بين يديه، وعلى هذا المنوال ظل الشرقي مثالا بين زملائه في التركيز على آلة القانون ذات ال 72 وترا، التي يضعها فوق فخذيه برفق كما يضع أب طفله. ولد صالح الشرقي سنة 1923 بمدينة سلا، حيث بدأت علاقته الأولى بالموسيقى من خلال إجادته العزف على آلة الناي، قبل أن ينتقل إلى الدارالبيضاء للاستقرار لدى أحد أفراد عائلته، وهو ما مكنه من الالتحاق، وعمره لا يتعدى 12 سنة، بالميتم الخيري للدار البيضاء بطريق مديونة. كان الطفل القادم من سلا يتابع دراسته الابتدائية في هذا الفضاء، وبموازاة مع ذلك انضم إلى الجوق الذي كان يؤطره الفنان محمد زنيبر الذي كان يطلق عليه النزلاء لقب «لمعلم»، كما كان يتعلم بين الفينة والأخرى مجموعة من الحرف التي يتم تلقينها للتلاميذ، خاصة المهن السائدة في تلك الفترة كالحياكة والدباغة وغيرها من الحرف التي كانت الجمعية الخيرية في تلك الفترة تلقنها للنزلاء لتكون سندا لهم في حياتهم. احتضن صالح آلة القانون، بعد أن كان عمر الطنطاوي يسعى إلى امتلاك أوتارها، وبفضل توجيهات «لمعلم» والمشاركة المكثفة في العديد من الملتقيات، تحول الشرقي إلى عنصر أساسي في تشكيلة الجوق الذي تجاوزت شهرته حيطان دار الرعاية. يستحضر صالح هذه المحطة «الخيرية» بكثير من الاعتزاز، ويعتبرها دعامة أساسية في مشواره الفني، لاسيما مع وجود مؤطر من قيمة زنيبر الذي كان يحب عمله ويتفانى في تلقين التلاميذ أصول ومبادئ الموسيقى بكل أنواعها، بل إنه أشار بفخر إلى هذه المرحلة الهامة من حياته في مؤلفه «جل ترى المعاني». غادر صالح الميتم، وارتبط بآلة القانون التي سبر أغوارها وتعمق في مداعبة أوتارها، لكنه قرر الرحيل سنة 1949 إلى الديار الفرنسية، حيث اشتغل لمدة عامين في مهنة الحياكة دون أن يفقد الاتصال بقانونه الذي كان يتأبطه في حله وترحاله. خلال مقامه في باريس عاصمة الإبداع التقى الشرقي بالعديد من رجالات الموسيقى العربية، فتبين له أن نسج المعاني أقرب إلى وجدانه من نسج الثوب. بعد عودته إلى المغرب انضم إلى الجوق الوطني للإذاعة والتلفزة المغربية، إلى جانب كل من إسماعيل أحمد والمكي الرايسي والمعطي بنقاسم وعبد الكريم بوهلال وغيرهم من الأسماء التي شكلت الجوق الذي طبع تاريخ الموسيقى المغربية بمداد الفخر، وفي سنة 1984 تقاعد صالح وتفرغ إلى الدراسة والتأليف. بالإضافة إلى اللحن والعزف كتب صالح الشرقي العديد من المؤلفات الموسيقية ك «القانون في الموسيقى المغربية»، «المستظرف في قواعد الفن والموسيقى»، الذي جمع مبادئ الموسيقى وأسس تلقينها للأجيال القادمة، وقد أصبح مرجعا أساسيا لطلاب المعاهد الموسيقية، «أضواء على الموسيقى المغربية»، «جل ترى المعاني» ويعتبر سيرة ذاتية يحكي فيه مساره الفني، وغيرها... من ميتم الدارالبيضاء إلى أكبر دور الأوبرا في العالم، تاريخ حافل بالمواقف مكنت صالح الشرقي من لقاء مشاهير وعمالقة الفن العربي وعلى رأسهم الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، وكوكب الشرق السيدة أم كلثوم، التي غنت قطعة «يا رسول الله خذ بيدي» وهي من ألحانه، والفنان عبد الحليم حافظ...