تتعالى أصوات الآلاف من المواطنين هذه الأيام احتجاجا ضد برامج الفكاهة الرمضانية المحلية التي بلغت حدا من الرداءة غير مسبوق في تاريخ التلفزيون بالمغرب، وخاصة منها تلك التي تبثها القناة الثانية والتي يبدو أن الاعتبارات التي أملت اختيارها وتصويرها وبرمجتها تمت من قبل أشخاص لا علاقة لهم لا بالفكاهة ولا بالعمل التلفزيوني معا (وذلك ملمح أكيد من ملامح «الخصوصية» المغربية في مطلع الألفية الثالثة، التي تتحدى العالم كله بإصرارها على أن تمشي برجليها إلى أعلى ورأسها إلى أسفل). إلا أنه، وفي خضم حركة الاحتجاج القوية هذه، يتناسى الجميع أمرا أهم بكثير من هذه الرداءة العابرة، بل ويميل عدد من الصحافيين إلى التنويه به أو إدخاله في مجال الدعابة على الأقل، رغم أن تأثيره السلبي على الثقافة والمجتمع وعلى التلفزة نفسها شديد الخطورة ويهدد بتدمير كل ما تم بناؤه إلى حد الآن على مستوى الشخصية المغربية؛ ونعني هنا، تحديدا، العملية التي دشنتها القناة الثانية قبل بضعة أشهر بالشروع في دبلجة مسلسلات مكسيكية إلى الدارجة المغربية. إن هذه العملية خطيرة جدا للأسباب التالية: أن من شأن هذه الدبلجة أن تغذي التطرف، وذلك عن طريق القضاء على ملمح ميز الشخصية المغربية طيلة عقود، وهو انفتاحها على الآخر، الذي لا يرجع إلى الإمكانيات التي يتيحها الموقع الجيوستراتيجي لبلادنا بقدرما يرتبط بنوعية التكوين الذي تلقاه المغاربة في مدرسة مغرب ما بعد الاستقلال، ووسط مجتمع إسلامي متسامح. إن مشاهدة إنتاجات أجنبية بلغات أجنبية من شأنها أن تثير فضول المشاهد وأن تدعوه إلى تعلم لغات أجنبية تزيد من انفتاحه على العالم وتواصله معه، كما أن من شأن ذلك أن يشعره بنقاط ضعفه ويجعله أكثر تواضعا في النظر إلى نفسه وسط العالم ويحثه على بذل مزيد من المجهود على المستويين المعرفي والثقافي. وهذا ما يتم القضاء عليه بصفة تامة من خلال عملية الدبلجة إلى الدارجة التي تغلق أبواب التواصل مع الآخر، وتضاعف لدى المشاهد إحساسا وهميا بالتفوق والاكتفاء الذاتي، خاصة وأن هذا المشاهد يعاني، عموما، من التخلف والجهل والأمية ولا يتوفر على أية وسيلة للثقافة والترفيه سوى التلفزيون. تحمل المسلسلات المكسيكية المدبلجة، وبهدف «إثارة» الجمهور الموجهة إليه أصلا، قيما بعيدة كل البعد عن القيم الخاصة بمجتمع عربي- إسلامي مثل المغرب (بكل خصوصياته وتلاوينه الثقافية)، تقوم كلها على الإثراء غير المشروع والخيانة الزوجية والسرقة والحمل خارج الزواج والتفتت الأسري إلى غير ذلك من القيم السلبية؛ وهي قيم من الممكن التعامل معها باعتبارها مجرد «خيال» لو أن الأمر يتعلق بمتلقين حضريين متعلمين. لكن بما أن معظم متابعي هذه المسلسلات المدبلجة (إلى لغة سوقية منحطة، فوق ذلك) هم مواطنون أميون، من سكان أحياء الصفيح في المدن وسكان البوادي، لا يتوفرون على أية حصانة تجعلهم يميزون الواقع عن الخيال وتقيهم من الميل إلى تقليد كل ما يرونه أمامهم على الشاشة باعتباره النموذج – المثال، فإن من شأن القيم التي تحملها تلك المسلسلات أن تؤدي إلى تثوير مفاجىء وغير منتظر للمسلكيات والقيم والبنيات الاجتماعية للمغاربة ذي عواقب خطيرة مدمرة وغير منتظرة؛ وهو ما لا يمكن أن يحصل لو أن تلك المسلسلات بثت بلغة أجنبية، حيث تعمل اللغة الأجنبية على إبقاء علاقة «تغريب» بين المشاهد والمسلسل تحول دون التماهي معه؛ حين تقوم شركة من الشركات العربية بعملية الدبلجة فإنها تضع نصب أعينها سوقا كبيرة تحقق عبرها أرباحا ضخمة بهذا القدر أو ذاك: ذلك هو حال الدبلجة إلى العربية (الموجهة إلى عموم العالم العربي) والدبلجة إلى الشامية (التي تحاول الركوب على نجاح المسلسلات السورية لدى المشاهد العربي)؛ لذلك لا يملك المرء إلا أن يتساءل عن خلفيات الدبلجة لسوق محدودة هي السوق المغربية لا يمكن أن تضمن، لوحدها، تلك الأرباح: فإما أن الشركة المدبلجة تحصل على المسلسلات الأصلية بالمجان لسبب من الأسباب، وبالتالي لا يهمها أمر ما تحمله من قيم سلبية مدمرة، وإما أن هناك من يدفع الأموال الطائلة في هذه العملية، ليس من أجل «إمتاع» المغاربة وإنما من أجل أن يتقوقع المغرب على ذاته ويغرق في عزلته عن العالم أكثر فأكثر.