لم يكن من قبيل الصدفة أن يبدأ افيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي، جولته الإفريقية بزيارة أديس أبابا، العاصمة الإثيوبية، ولم تكن صدفة أيضا أن تشمل هذه الجولة دولتين أخريين تشكلان مع إثيوبيا المصدر الأساسي لمياه نهر النيل، وهما أوغندا وكينيا. إسرائيل بدأت تدرك جيدا أن هناك حالة من التذمر في أوساط دول المنبع الإفريقي لهيمنة دولتين عربيتين على الغالبية الساحقة من مياه النيل، هما مصر (55.5 مليار متر مكعب) والسودان (18.5 مليار متر مكعب)، أما ما تبقى، أي عشرة مليارات متر مكعب، فسيذهب إلى ست دول إفريقية على الأقل. وشهدت الأعوام الأخيرة مطالبات علنية بتعديل اتفاقيتي 1929 و1959 لتوزيع مياه النيل، خاصة الشق المتعلق منهما بإعطاء مصر (دولة المصب) حق الفيتو على أي مشاريع سدود في أي من دول المنبع. التركيز الإسرائيلي على إثيوبيا مهم لأنها تقود التمرد على الاتفاقيتين المذكورتين أولا، ولأن 86 في المائة من مياه النيل تأتي من مرتفعاتها، والأهم من كل ذلك الوجود العسكري الإسرائيلي المتعاظم في هذه الدولة التي باتت «مخلب القط» الأمريكي في القرن الإفريقي، وتجلى ذلك واضحا في الفترة الأخيرة بإرسالها قوات إلى الصومال واحتلاله فعليا. مياه النيل مسألة تشكل «حياة أو موتاً» بالنسبة إلى مصر على مدى العصور، حتى إن حكومة محمد علي باشا (القرن التاسع عشر) وضعت خطة طوارئ للتدخل عسكريا ضد أي دولة يمكن أن تشكل أي خطر على تدفق مياه النيل، بينما دعا الرئيس الراحل محمد أنور السادات خبراءه العسكريين إلى وضع خطة طوارئ عام 1979 عندما أعلنت إثيوبيا عن نواياها إقامة سد لري 90 ألف هكتار في حوض النيل الأزرق، وهدد بتدمير هذا السد، وعقد بالفعل اجتماعا طارئا لقيادة هيئة أركان جيشه لبحث هذه المسألة. الإحصاءات الرسمية تقول إنه في عام 2017 لن يكون لدى مصر الماء الكافي لمواجهة احتياجات مواطنيها المتفاقمة، حيث ستبلغ هذه الاحتياجات 86 مليار متر مكعب سنويا، بينما لن تتعدى جميع مصادرها 71 مليار متر مكعب، أي أنها ستواجه عجزا مقداره 15 مليار متر مكعب. الصورة ربما تبدو مأساوية بشكل أكبر إذا مضت إثيوبيا قدما في نواياها إقامة سد على النيل الأزرق، مصدر معظم مياه النيل، ويبدو أنها مصممة على ذلك، وأعلن وزير الري فيها أنه لا توجد قوة في العالم تحول دون إقدامها على ذلك، فالمياه مياهها، ولا حق لأحد في أن يملك «الفيتو» ضد مشاريعها، وهدد بالانسحاب من معاهدة 1929 المذكورة. إنها «حرب المياه» الزاحفة علينا كعرب، بينما نحن نغط في نعيم المسلسلات الرمضانية وننشغل بتغطية موائد الرحمن، وتشكيل الحكومة اللبنانية، وجولات السناتور ميتشل، والخلافات بين حركتي «فتح» و«حماس»، وكيفية ترتيب انتقال سهل ل«التوريث» في مصر بمباركة أمريكية إسرائيلية مشتركة. ليبرمان، الذي هدد بقصف السد العالي وإغراق الشعب المصري، يذهب إلى القارة الإفريقية على رأس وفد إسرائيلي كبير يضم ممثلين عن أكبر عشر شركات أسلحة إسرائيلية، علاوة على خبراء آخرين في شؤون المياه والاقتصاد وحرب العصابات. بمعنى آخر، يريد ليبرلمان أن يعرض على هذه الدول خدمات بلاده العسكرية لتعزيز قواتها المسلحة للتصدي لأي حرب يمكن أن تشنها مصر في المستقبل في حال إقدام هذه البلدان وخاصة إثيوبيا، على مشاريع لتحويل مياه النيل. الدكتور بطرس غالي، وزير الدولة المصري للشؤون الخارجية والمسؤول المباشر عن انحسار نفوذ بلاده في القارة الإفريقية، تنبأ عام 1985 بأن الحرب القادمة في المنطقة ستكون حول مياه النيل، ولكن نبوءته هذه لم تصدق في حينها، لأن ثلاث حروب اندلعت في المنطقة أولاها حرب الخليج الثانية (الكويت)، ثم الحرب في أفغانستان، وأخيرا حرب احتلال العراق، وكانت الحروب الثلاث تصب في خدمة إسرائيل، وإضعاف العرب في المقابل، ربما تمهيدا لحرب المياه. وعلى أي حال، كوفئ الدكتور غالي على نبوءاته هذه، وتخريبه للعلاقات العربية الإفريقية، جزئيا أو كليا، بتولي الأمانة العامة للأمم المتحدة لاحقا. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن رد الفعل العربي على هذا التغلغل الاستراتيجي الإسرائيلي في قارة، كانت حتى نصف قرن مضى، تعتبر بحيرة نفوذ عربية، ومصرية على وجه التحديد، تعتمد اعتمادا مباشرا على المنح الدراسية والخبراء الزراعيين والدعاة المصريين؟ الإجابة عن هذا السؤال مخيبة للآمال، فتاريخ العرب الحديث في القارة الإفريقية يتلخص في سلسلة من الكوارث الاستراتيجية، ابتداء من أزمة حلايب المفتعلة مع السودان (لماذا لم نسمع عنها بالمناسبة؟)، ومرورا بترك الصومال لمصيره الدموي، وانتهاء بالانشغال بدارفور عن أكبر مؤامرة تستهدف تفكيك السودان وطمس عروبته، بل وهويته الإسلامية. الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي استثمر المليارات في إفريقيا على أمل أن يصبح زعيما لها، انتابته حالة من الصحوة أخيرا، وأعلن، أثناء احتفالاته بالذكرى الأربعين لوصوله إلى سدة الحكم، أن إسرائيل تقف خلف جميع الصراعات في إفريقيا، وطالب بقطع العلاقات الدبلوماسية معها. ومن المفارقة أن دعوة الزعيم الليبي الغريبة هذه تأتي في وقت تستعد فيه دول عربية عديدة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل بطلب أمريكي مكافأة لها، أي لإسرائيل، على تجميدها الجزئي والمؤقت للاستيطان في الضفة الغربية. التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا يستهدف مصر ومستقبل أجيالها، وضربها في خاصرتها الموجعة، أي مياه نيلها، ولكن المحيّر أن الحكومة المصرية منشغلة بمعبر رفح، وخلية حزب الله، والخطر الإيراني المزعوم. الرئيس حسني مبارك، الذي من المفترض أن يقود تحركا معاكسا لتطويق هذا المخطط الإسرائيلي، تغيّب عن القمة الإفريقية الطارئة التي انعقدت في طرابلس لبحث النزاعات الإفريقية، ولم يشارك ليبيا احتفالاتها، بالتالي، لأسباب ما زالت مجهولة، فهناك من يقول إنها أسباب مرضية، وهناك من يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويؤكد أنه قاطع القمة والاحتفالات التي تلتها حتى لا يصافح أمير دولة قطر. فأين قطر الصغرى من مصر العظمى، وماذا لو صافح أميرها أو حتى لم يصافحه، فمصالح مصر الاستراتيجية من المفترض أن تتقدم على كل الصغائر. المحللون الأفارقة يقولون إن إسرائيل تعرض عليهم خبرات زراعية، ووعوداً بمساعدتهم للحصول على منح مالية أمريكية وأوربية لما لها من نفوذ كبير هناك، وفوق هذا وذاك أسلحة حديثة ومتطورة وخبراء يتولون تدريب جيوشهم على حروب العصابات، فماذا عند العرب لكي يقدموه غير الفساد والتخلف والهزائم؟ الرد على ذلك بسيط، وهو أن الخبرات الزراعية والعسكرية يمكن الحصول عليها من مصادر أخرى غير إسرائيل، ولكن الشق الثاني صحيح، وهو أننا كعرب لم يعد لدينا ما نقدمه غير الخبرات العريقة في إهدار الثروات النفطية الهائلة، والخنوع للأعداء، والتآمر على بعضنا البعض.