ما يزال في بداية عقده الثالث، لكنه رأى خلال هذا العمر القصير ما لم يره كهل أو عجوز. عاش جمال الدبوز بؤس الطفولة، وسلطة الأب وقتامة المستقبل وقسوة الطوارئ، لكنه عاش أيضا حنان الأم، وإيمانها به وتشبث بالأمل، الذي أنقذه، خلافا للكثير من أقرانه أبناء الأصول المهاجرة، من الضياع وغياهب السجون. استطاع جمال أن يتسلق أدراج المجد رغم كل الصعوبات ورغم العاهة إلى أن أصبح واحدا من أشهر الفكاهيين الموهوبين. هذه مقتطفات من حياة غير عادية لشخص غير عادي. مع مرور الأيام، التحق جمال بمسرح «ديكليك تياتر» وأصبح يقدم عروضا رفقة ألان وماري بيير دوجوا، اللذين يشكلان فرقة مسرحية تقدم عروضا ارتجالية من اقتراح الجمهور في المسارح الباريزية. لكن جمال كان يحلم دائما باليوم الذي يقدم فيه عرضا فرديا على الخشبة. فاتح أستاذه بابي في الموضوع، الذي أدرك أن جمال الصغير صار يتوق إلى التحليق بأجنحته بدل أجنحة الآخرين. تفهم بابي الأمر، فدعا جمال إلى الجلوس أمام حاسوب وقال له:» الآن، ما تريد أن تقدمه على الخشبة، ابدأ بتحريره على الشاشة.» فالكتابة شيء ضروري في خلق الفرجة المسرحية. لكن ليس من السهل على فنان ارتجالي أن يكتب كلماته على الورق. لذلك، كانت الكتابة بالنسبة لجمال واجبا متعبا. إلا أنه وجد السند الكبير في مدير المسرح وزوجته اللذين ساعداه على الكتابة وواكباه إلى أن صار يقضي الساعات الطوال في تحويل كل ما تلتقطه بديهته حوله إلى أفكار، لاسيما أنه ماهر في لعبة التقاط التفاصيل أينما حل وارتحل، سواء في القطار، أو ملعب رياضي، أو في الحي السكني... «أول من زرع في الرغبة في صياغة السكيتشات هو اسماعين». هكذا يردد جمال في كل مناسبة حديث عن بدايته. اسماعين، الجزائري، لعب دور الحامي لجمال المغربي. فقد دعمه أمام فرانسوا ميتران بمعهد العالم العربي، وها هو جاء يوم، 29 يونيو 1994، إلى مدينة طراب ليترأس حفل تقديم فيلم نبيل عيوش، «أحجار الصحراء الزرقاء»، الذي لعب فيه جمال دورا رئيسيا. جر عرض الفيلم القصير بحضور عمدة المدينة برنار هوغو ببناية غرونيي أسيل الرائعة، التي بنيت على أساسات تعود إلى القرن الخامس عشر وأعيد بناؤها سنة 1920؛ وتعتبر أحد آخر المآثر بالمدينة القديمة، حيث توجد قاعة السينما الوحيدة جون رونوار. فيلم نبيل عيوش حاز جائزة كنال بلوس، كما كان له صدى كبير في المغرب؛ وهو ما جعل جمهورا كبيرا من أبناء مدينة طراب، المنحدرين من الهجرة، يحج إلى مشاهدته. الفيلم يحكي، في أسلوب شاعري، قصة نجيب، المراهق الذي لم يفهمه قومه فهام في الصحراء، مؤمنا بأنه ملاق فيها أحجارا كبيرة زرقاء، رمز بحثه عن الحقيقة. ركز المخرج، من أصل مغربي، المزداد سنة 1969 بباريس وكبر في سارسيل، في عمله السينمائي الأول هذا على كل ما يملك من مهارات لإبراز المقصود من فيلمه، معتمدا في ذلك على الشخصية التي يجسدها جمال الدبوز؛ الشاب الذي يسعى إلى تأسيس هوية خاصة به. في طريقه في الصحراء، كان على نجيب أن يواجه أهله ومحيطه الذي اعتبره مجنونا. وحده شيخ القبيلة هو الذي قال له:» سلاحك هو إرادتك وإصرارك.» بقي له، بعد ذلك أن يتحدى الصحراء ليبلغ هدفه، أي ذلك الجبل الحجري الأزرق اللامع تحت أشعة الشمس الحارقة. الحقيقة أن شخصية نجيب في الفيلم تشبه إلى حد بعيد شخصية جمال نفسه. فجمال، هو الآخر، في سعي دائم نحو مصير مشرق، فتراه إذن يعيش في الفيلم ما يعيشه في الحياة. فالمراهق النحيل نجيب، المعروف بجمال، الذي يحمل معه ذراعا جريحة تتدلى في الفراغ يحظى برعاية أمه التي تعزه أكثر من أي شيء آخر، تنصت إليه وتؤمن بأحلامه بينما الأب يصفعه لأنه يرفض أن يفهمه بعد أن تحدى الإبن سلطته. من أجل تقديم جيد لهذا الدور الأول في حياته، كان على الممثل المبتدئ أن يتغلب على حاجز ثقافي يكمن في ضرورة الحديث باللهجة الدارجة. إلا أن جمال لا يتقنها جيدا. لكن نعيمة المشرقي كانت إلى جانبه لتتدخل من أجل إنقاذ الموقف بعد أن اتُّفق على كتابة تدخلاته بطريقة فونولوجية باستعمال القاموس المحدود الذي يعرفه. «في أماكن التصوير، بتافراوت، جنوب المغرب، تحكي نعيمة، كنا جميعا، ممثلين وتقنيين حوله لتقديم المساعدة إليه حتى يكتسب الثقة اللازمة في النفس. فقد احتضناه حتى يقدم أفضل ما لديه. كانت علاقتي به كالعلاقة بين الطفل وأمه.» كان لزاما أن تقدم كل هذه المساعدة لجمال، الذي اضطر إلى إعادة المشهد الذي يصفعه فيه والده، الذي جسد دوره ابن ابراهيم، 27 مرة قبل أن يقتنع المخرج بأدائه. عندما اشتعلت الأنوار في قاعة العرض، كان كل متفرج ما يزال يحتفظ في ذاكرته بمشاهد الطفل الصغير جمال، وهو يرتدي جلبابه المغبر، ويحمل كفه إلى السماء أمام الأحجار الزرقاء في الصحراء. لقد كان مشهدا غريبا وجد فيه الكثير من المتفرجين أوجه شبه بينه وبين القصة الحقيقية لجمال. صفق الجمهور الحاضر لأداء الممثل الناشئ، الذي أبدع في أدائه، بينما احتضنه «الأخ الأكبر» اسماعين في كواليس العرض. برنارد هوغو، عمدة المدينة، جاء هو الآخر يهنئ جمال على موهبته المعجب بها قبل أن يهمس في عمق أذنه أنه سيكون مسرورا بتقديم المساعدة إليه في يوم من الأيام.