ما يزال في بداية عقده الثالث، لكنه رأى خلال هذا العمر القصير ما لم يره كهل أو عجوز. عاش جمال الدبوز بؤس الطفولة، وسلطة الأب وقتامة المستقبل وقسوة الطوارئ، لكنه عاش أيضا حنان الأم، وإيمانها به وتشبث بالأمل، الذي أنقذه، خلافا للكثير من أقرانه أبناء الأصول المهاجرة، من الضياع وغياهب السجون. استطاع جمال أن يتسلق أدراج المجد رغم كل الصعوبات ورغم العاهة إلى أن أصبح واحدا من أشهر الفكاهيين الموهوبين. هذه مقتطفات من حياة غير عادية لشخص غير عادي. تكللت السنة الدراسية بقرار سلبي في حق جمال الدبوز. فقد قرر مجلس الأساتذة رسوب هذا التلميذ الذي بالغ، في نظرهم، في الغياب. كان قرارا استثنائيا غير معهود، لكنه فرض من قبل الحارس العام. إلا أن القرار لم يرق أستاذة القانون والاقتصاد، دلفين فاسور، التي كانت أكثر الأساتذة تفهما لشخصية جمال. إلا أن حكايتها معه لم تبدأ بسهولة. فقد عانت، هي الأخرى، في البداية من مشاكسته حتى كادت تتخذ موقفا سلبيا منه. فاستدعت أبويه، وحضر بدلهما خاله قبل أن تتعرف على الأسرة وتتقوى علاقتها الخاصة بها. اكتشفت، حينها، أن هذا التلميذ يملك شيئا يميزه عن الآخرين. «كان واضحا، تقول دلفين، أن بإمكانه أن ينجح في حياته. فتشبثت به». وخارج العلاقة أستاذة- تلميذ، تحولت الروابط بين دلفين فاسور وجمال، تدريجيا، إلى صداقة حقيقية. وفي خلال ذلك، عرفها برشيد بن الزين، رئيس جمعية «نافذة الإغاثة»، الذي كان حينها أستاذا للاقتصاد في مدينة طراب، والذي أصبح هو الأخ الأكبر لجمال لاسيما أنه هو الذي كان حاضرا إلى جواره بعد أن كادت تقفل في وجهه أبواب المستقبل المهني. أعجبت أستاذة الاقتصاد بشجاعة الأم فاطمة عندما زارتها في البيت وتعرفت على أشقاء وشقيقات جمال. ذات مساء، أسرَّ جمال لصديقه و«أخيه» رشيد بن الزين قلقه وحيرته بشأن سؤال متابعة الدراسة أم التخلي عنها للتفرغ لصقل موهبته وتطويرها وتجريب حظه في عالم الفرجة. وفي اليوم الموالي، اتخذ القرار النهائي بحضور دلفين: جمال سيكون فنانا فرجويا. وبينما كان جمال ينهي علاقته بالثانوية إلى الأبد، توصل بدعوة للمشاركة في حفل فرجوي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. كان حينها المراهق الفنان التقى لتوه مع شخص معروف بعمله التربوي الكبير في الأحياء الصعبة بالضواحي الفرنسية، ليرسم الطريق الصحيح للأطفال في وضعية صعبة. يتعلق الأمر بأحمد الغيات، الذي أسس بالمقاطعة الثامنة عشرة بباريس جمعية «خارج المنطقة» (Hors la zone). اكتشف جمال خلال حفل للمسرح الارتجالي، وقال عنه: «(...) كان ذكيا. أضحكني كثيرا، فاقترحت عليه أن يزورنا بباريس ليحيي حفلات مسائية عندنا.» سُرَّ جمال لإعادة ربط الاتصال بالحي الذي ولد فيه. أحمد الغيات سيمنحه فرصة المشاركة في مشروع كبير يعبئ الكثير من «الإخوة الكبار» عبر الحزام الباريسي الكبير ويهدف إلى خلق روابط التواصل بين الشباب من أصول مغربية، المزدادين في فرنسا. لأن الحكومة المغربية بدأت، منذ سنة 1990، الاهتمام بهؤلاء الشباب المنتمين إلى الجيل الثاني والثالث للهجرة، الذين لا يحتفظ لهم أهل البلد إلا بصورة منقوصة ترتبط بحلولهم بالبلد خلال العطلة مكدسين في سيارات 305 بريك، ومحملين بالكثير من الأمتعة... يتصورونهم أغنياء، لهم الكثير من الأموال. يعتبرونهم «فاكانسية» متباهين بوضعهم وبمالهم وممارساتهم. أجيال الهجرة تشعر بهذا الشرخ الموجود بينها وبين أبناء البلد. لذلك لابد من القيام بشيء يمكنه أن يقرب المسافات بين أهل البلد المحليين وبين أولئك المنحدرين من أصول مهاجرة، وتغيير تلك الصورة التي التصقت بهم من دون سند أو مبرر وجيه. وفي إطار محاولة ردم هذه الهوة، نظمت مؤسسة الحسن الثاني بتعاون مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن امسيك بالدار البيضاء منتدى حول موضوع «المهاجرون، نظرة جديدة». غصت قاعة المدرج الرئيس بالكلية بحوالي 500 طالب، وكان من بين الحضور عدد من الشخصيات الفكرية والفنية، منها نعيمة المشرقي وزوجها عبد الرحمان الخياط ووفد فرنسي من المسؤولين عن بعض الجمعيات منهم رشيد بن الزين وخالد القنديلي وأحمد الغيات، الذي كانت له فكرة إدماج متدخل- مفاجأة ليضيف إلى مختلف التدخلات شهادة حية غير منتظرة عن حياة المهاجرين أبناء الهجرة في فرنسا. كانت الشهادة، طبعا لجمال الدبوز، الذي ظل الجمهور يرمقه وهو يعطي الانطباع بأنه محاضر حقيقي. تسلم الميكروفون، تأكد من اشتغاله ومن سلامة صوته قبل أن يقول:» السيد الوزير، ممثل جلالة الملك، السيدات والسادة، ها من نحن، ها من أنا: مغربي، لكنني فرنسي كذلك. نحن أبناء عمومة، وأنتم تنظرون إلينا بعيون غريبة...». كان لخطاب جمال وقع إيجابي على الحاضرين. الجميع أُعجب بهذا الفتى الصريح، الذي كان بارعا في التعبير وفي الانتقال بين العربية والفرنسية بسلاسة عجيبة، وكان بارعا أيضا في إعطاء الحضور درسا في التواصل على بعد 2000 كلم من الثانوية المهنية هنري ماتيس في مدينة طراب بفرنسا.