ما يزال في بداية عقده الثالث، لكنه رأى خلال هذا العمر القصير ما لم يره كهل أو عجوز. عاش جمال الدبوز بؤس الطفولة، وسلطة الأب وقتامة المستقبل وقسوة الطوارئ، لكنه عاش أيضا حنان الأم، وإيمانها به وتشبث بالأمل، الذي أنقذه، خلافا للكثير من أقرانه أبناء الأصول المهاجرة، من الضياع وغياهب السجون. استطاع جمال أن يتسلق أدراج المجد رغم كل الصعوبات ورغم العاهة إلى أن أصبح واحدا من أشهر الفكاهيين الموهوبين. هذه مقتطفات من حياة غير عادية لشخص غير عادي. الشارع... لا شيء غير الشارع ليستقبل الأطفال الصغار بعد أن يعودوا من المدرسة. يخرج الأطفال إلى الشارع لأن ساعات عمل الأبوين طويلة، ولأن التلفزيون لا يقدم أشياء تثير الاهتمام. وفي الشارع تتعدد الخيارات بين لعب كرة القدم، أو مطاردة القطط والقبض عليها لتلوينها بالأخضر، أو الكتابة على الجدران، أو استفزاز حارسات شقق الكراء المعتدل، أو الذهاب في رحلة قنص الفئران الضخمة في حقول منطقة نوفل المجاورة... وعندما يكون الجو ماطرا أو باردا، يحتمي الجميع بمداخل العمارات أو بأقفاص المصاعد الحديدية لتبادل الحديث والسخرية والطرائف... لقد ولت فترة روائح التوابل والنعناع المنبعثة من محلات باربس. تغير أفق جمال بعد أن صارت خلفيته، اليوم، هي ذلك الغيتو البئيس في الضاحية، بمساحاتها الشاسعة وانحصارها المعماري. 72 % من السكن الاجتماعي، معدل عطالة عال يتراوح بين 15 و20 % من السكان الناشطين: مدينة طراب تسجل أرقاما عالية على مستوى البطالة والإجرام في منطقة إفلين كلها. في عالم مثل هذا، يرتسم المصير دون كثير أمل بالرغم من وجود المدرسة الابتدائية أوغوست رونوار من الجانب الآخر، ثم كوليج غوستاف كوربي، فالثانوية التقنية. ربما استطاع أحد أطفال الضاحية أن يلجها ليضمن حرفة تقيه شر البطالة، وتضمن له، على الأقل، حياة أفضل من حياة الأب والأم، اللذين يقول عنهما جمال: « كنت أراهما يعودان إلى البيت منهكين. لم أكن أريد أن أكون مثلهما». وربما كان المصير خارج هذا الفضاء كما تتمنى الأمهات، لأن الوافدين إلى هنا، لا يأتون إليه بنية البقاء فيه الحياة كلها؛ لكن شرط أن يجتهد الوافد ويكد في المدرسة بدل أن يقضي الوقت كله في الثرثرة. أما جمال، فقد كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم كما الصغير أنيلكا، جاره في زنقة مولان- دو- لا- غاليت. لكن، لو اجتهد جمال بعض الشيء، فسيكون له مستقبل آخر ناجح في عالم التجارة. فهو يتمتع بكل الكفاءات اللازمة في هذا الميدان. المجموعة المدرسية أوغوست- رونوار عبارة عن مجمع من الوحدات المستقلة، مكعبة الشكل، تشهد على حقبة الجمالية المعمارية التي سادت بداية الثمانينيات. في الأقسام الابتدائية، لم يكن جمال الدبوز بالتلميذ المجتهد ولا بالتلميذ السيء؛ لكنه كان يتميز عن غيره في ساحة الاستراحة حيث يتدافع الأطفال المنتمون إلى مختلف الأطياف الإثنية: أغلبهم مغاربة وأفارقة جنوب الصحراء؛ لكن كان من بينهم أيضا برتغاليون و»فرنسيون أصليون». جمال الصغير كبر وسط هذه الفسيفساء الإثنية، حيث تلتقي الثقافات بكل تجلياتها. خلال فترة الاستراحة ترى جمال يسحب التلميذات من شعرهن؛ وفي الفصل الدراسي يقلد الآخرين أثناء حصة التلاوة جهرا، فيغطي على صعوباته في قراءة النصوص باللجوء إلى خياله، فيختلق كلمات لا توجد في النص، ويضيف أخرى، ويحكي القصة على طريقته الخاصة، بعيدا عما يوجد في الكتاب المدرسي. يتذكر جمال تلك الأجواء: «كلما جاء دوري في حصة قراءة النصوص، كانت الأمور تنفلت مني فتنقلب الأمور إلى هزل جماعي»؛ وهو ما كان يتلقى عنه أصفارا من معلميه، وعقوبات يلزم بتبليغها إلى أبويه من أجل الإخبار بها والتوقيع عليها. إلا أن جمال لم يكن ليأسف لهذا كله، مادام يقول إنه هو الرابح طالما ينجح في تمتيع وتسلية أصدقائه. كانت حاجته الأولى هي التميز من خلال إثارة الضحك حوله. هذا هو جمال الدبوز الصغير. «لقد كنت صغير الهيأة الجسدية مقارنة مع أصدقائي، في المدرسة كما في الحي. والطريقة الوحيدة للتميز هي إما أن تكون قويا، أو أن تكون صاحب لسان كثير الكلام. كنت إذن صاحب لسان كثير الكلام.» لكن الأمور في البيت لم تكن كما هي في الخارج. فمن مصلحته أن يراعي الهدوء الواجب في البيت بعد أن يعود الأب منهكا من عمله. نحيلا، أشعث الشعر، كث الشارب، صارم النظر... هكذا كان الأب. كان يعدم الصبر الذي يجعله يتحمل شقاوة الإبن جمال، بل إنه قد لا يتردد في سحب حزامه والضرب به. أما السباب، فلم يكن إلا عربيا. بالنسبة له، ما إن يتخطى أطفال الدبوز عتبة البيت نحو الداخل، إلا وأصبحوا في المغرب. «لم نكن نحتاج إلى حمل تأشيرة على جواز السفر، يعلق جمال. لا بل إن والدي اقتنى صحنا مقعرا ليدفعنا إلى التعلق ببرامج التلفزة المغربية. بفضل مثل هذه الأشياء، كانت لي دائما ثقافة مزدوجة». مسألة الانتماء إلى فرنسا، لا يحتفظ منها أحمد الدبوز الأب إلا بتلك الليالي التي كان يحني فيها ظهره تحت الأرض، في ميتروهات باريس كعامل صيانة. «كان أبي يقوم بخدمات الصيانة في الميترو، يقول جمال. رئيسه في العمل كان لقيطا حقيقيا. ظل حياته كلها يكلفه بأعمال رديئة في المحطات الأكثر اتساخا، بينما أبي لم يكن ليعترض. كان يعتبر نفسه غريبا عن فرنسا. بالنسبة لي هذا ظلم.»