«لا فرق بين المناضل والمهاجر: كلاهما تضطره الظروف يوما إلى الدخول في السرية» ج. لولاش رأيتهم يطرحونه أرضا. كانوا ثلاثة: فتاة وشابين. على رؤوسهم خوذات زرقاء. ظهره على باب حديدي، فيما يده مشدودة بطوق إلى يد أحدهم. الثلاثة جاثون على ركبهم وهم يحيطون به. بدا المسكين مسالما ومطواعا. الفتاة تتحدث في جهاز لاسلكي. بينما هو يبكي ويصيح: «لم أفعل شيئا...اتركوني... لم أفعل شيئا». فضحته جلدته. يشبهني. عربي. مغاربي... لذلك ألقوا عليه القبض. لا يبدو في المشهد أثر لسرقة، ولا لاعتداء أو ضرب أو شجار. لا أعتقد أن ثمة جريمة حصلت. أغلب الظن أن دورية الشرطة كانت في جولة اعتيادية وعندما رآها صاحبنا ارتبك. ربما حاول الفرار، لذلك أمسكوا به وطفقوا يبهدلونه على ذلك النحو... منذ انهارت حكومة اليسار، وسقط ليونيل جوسبان على الحلبة السياسية كبطل إغريقي، لم يكف اليمين الحاكم عن استعراض عضلاته الزرقاء. في الشوارع وفي محطات المترو والقطارات وفي المطارات والضواحي الصعبة، يوميا يتجول عشرات من أفراد الشرطة بغطرسة رفقة كلاب مخيفة مدجَجين بالبنادق والرشاشات. تسمى هذه الدوريات «شرطة القرب». مهمتها الرسمية حفظ الأمن في الضواحي الصعبة، لكنها في الحقيقة لا تفعل شيئا آخر غير التنكيل بالمهاجرين. الأجانب في أعين أصحاب الخوذات الزرقاء مجرد مجرمين متسترين دخلوا التراب الفرنسي بطريقة غير قانونية. لذلك ينبغي الاهتمام بهم. كلما لمحوا واحدا، يحدقون فيه بعجرفة واستفزاز. إذا ارتبك يجري تفتيشه من رأسه حتى أخمص قدميه بطريقة مهينة. أما إذا هرب، فلن يكون مصيره أفضل من مصير الشاب الذي يصرخ يائسا بين أيديهم. أحيانا، يكفي أن تكون ملابسك حقيرة أو تبدو عليك علامات التعب لكي تثير شهية عصابات الشرطة ! كان ثمة فضوليون قليلون يتتبعون المشهد بحذر دون أن يتوقفوا عن المشي. الساعة تجاوزت الثانية عشرة زوالا بقليل. كنت خارجا من محطة مترو بيَار كيري. عوض أن أنحدر نحو البيت، بقيت قرب موقف الباصات كما لو أنني أنتظر الحافلة. فقط كي أتمكن من متابعة ما سيجري. فجأة تعالت صفارات الإنذار: ظهرت سيارتا شرطة تسيران بسرعة جنونية كما في مشهد مطاردة على الطريقة الأمريكية. أخذ الثلاثة يلوّحون لزملائهم، دون أن يكفوا عن تطويق الشاب. كخخخخخخخخخخخخخخ. توقفت السيارة الأولى إثر ضربة فرامل حادة. كخخخخخ. توقفت الثانية. روّاد مقهى مجاور وبعض العابرين استداروا واشرأبوا بأعناقهم ليتفرجوا. نزل أكثر من عشرة أفراد، جميعهم يرتدون اللباس الأزرق المخيف. بعضهم كان يحمل لا سلكيا كبيرا أو هراوة أو رشاشا. بحركات مبالغ فيها هرعوا نحو «المجرم» كما لو أنه ينوي الفرار، رغم أنه هامد في مكانه! المشهد كان حزينا ومضحكا في الآن ذاته. مسرحيتهم عرقلت المرور وأثارت حنق أصحاب السيارات. زعيق منبهاتهم ملأ الفضاء. تحلق فيلق الشرطة حوله. جرجروه. أدخلوه إلى إحدى السيارات. وانطلقوا في موكب أمني صاخب على إيقاع صفارات الإنذار... شيعتهم مذهولا ثم بصقت بغضب: الأوغاد... لماذا يحلو لهم أن ينكَلوا بنا هكذا ؟ لا شك أنه مشرد بلا أوراق إقامة. لذلك ارتبك عندما رآهم فأمسكوا به. حظه العاثر جعله يقع بين أيديهم. لكن، ما عليه أن يهرق دمعاته هكذا! فكرت، كان من الأجدر أن يتحمل قدره في صمت ... أليس رجلا؟ الرجال لا يبكون. ولكم تكون دموعهم مؤلمة عندما يفعلون! رجل في مقتبل العمر يبكي فقط لأنه قادم من بلاد بائسة. بلاد سكانها «مجرمون» إلى أن يثبتوا العكس. هارب من جحيم حرب أهلية ومن بيلدوزيرات رهيبة تجرف المستقبل. هارب من جوع ومن فقر ومن تشرد ومن يأس... ليسقط بين أيدي هؤلاء الأجلاف. المهاجرون بالنسبة إليهم مجرد حثالة، راكاي، فئران بيضاء تصلح لاختبار الخطط الأمنية الجديدة. ربما بكى لأنه فكر في أمّه. أو لأنه شاهد مستقبلا ورديا يتحطم كمزهرية ارتطمت بالأرض... انتشلني من تداعياتي إفريقي ثخين بمحفظة أنيقة ينتظر الحافلة، أو يصطنع الانتظار مثلي: «كل هذا العدد من البوليس من أجل شخص واحد!» تساءل مستنكرا، قبل أن يضيف: « هذه عبقرية اليمين، يعتقدون أنهم بهذه الطريقة سيقضون على ظاهرة انعدام الأمن التي أفشلت حكومة اليسار». هززت رأسي دون أن أنبس ببنت شفة. أردف الإفريقي: «لكن أين يكون كل هؤلاء الجبناء عندما يضرب الأقوياء !». ذهبت إلى البيت دون أن أعرف من هم هؤلاء الأقوياء ومتى يضربون، ودون أن أعرف إن كنت سأستطيع النوم هذه الليلة بلا كوابيس. لم تفارق ذهني صورة الشاب بين أيدي الشرطة: شعره الممشط بعناية. ملابسه النظيفة. ذقنه الحليقة. ملامحه التي تشبهني. ذله. دمعاته. صيحاته المؤلمة: «لم أفعل شيئا... لم أفعل شيئا!» إذا كان بلا أوراق إقامة، لا شك أنه سينتهي مقيدا على مقعد بأول طائرة في اتجاه البلاد. سيعود إلى البيت من دون حقيبة. يحمل معه ذلَ الرحلة وخيبة المصير. كيف سيحكي خساراته للعائلة؟ كيف سيسلم على رفاق الدرب؟ ماذا سيقول لنفسه عندما ينظر في المرآة؟ فكرت في مصير بعض أصدقائي الذين لا أوراق لهم. وفي مصيري... لا أحد في مأمن هنا ما لم يحصل على جواز سفر أحمر.