بقدر ما ترى أحفاد الثورة الفرنسية يسْخرون من السماء ومن الغيب والكنائس، بقدر ما تجدهم شديدي الحرص على الوفاء لذاكرة القرون الوسطى. يحتفلون بمآثر العصور المظْلمة كتذكارات غامضة لفترة مليئة بالاستبداد. يرمّمونها ويزيّنونها ويسمّونها كنوزا أثرية. رغم العلمانية والعقلانية والحداثة، مازال ورثة عصر الأنوار يفردون مكانة مميّزة للكاتدرائيات والتماثيل واللوحات والمنحوتات الحجرية التي تنتمي إلى تلك العهود. في نوطردام في ساكريكور في سان سيلبيس في سان جيرمان... وفي كلّ كنائس الإكزاكون، تستطيع أن تشمّ رائحة الانحطاط القديمة. بإمكانك أن تقف أمام منْبر الاعترافات وتلمس خشب المقصورة الصغيرة حيث كان القساوسة يبيعون تذاكر الجنّة لحشود من الفقراء والساذجين. تستطيع أن تتفرج على حقبة ميّتة من تاريخ الحضارة الغربيّة كما لو كنت في متحف للعصور. لا تكاد تخلو مدينة أو ضاحية أو حيّ في فرنسا من كنيسة أو كاتدرائية قديمة. لم تعد هذه المباني العتيقة تصلح لصلاة الأحد، أصبحت مجرد معلمات فنية يزورها سيّاح من كلّ جهات العالم. وتماما كما نطلق على مدننا وشوارعنا أسماء الأولياء والصالحين، من سيدي سليمان إلى مولاي بوعزة، ومن مولاي علي الشريف إلى الحاج قدّور، ومن سيدي حرازم إلى مولاي يعقوب ومن سيدي قاسم إلى مولاي بوسلهام... لا يجد الفرنسيون أدنى حرج في تسمية الشوارع والساحات والضواحي بألقاب الكهنة والقدّيسين: سان ريمي، سان جيرمان، سان ميشال، سان ليجي، سان سيلبيس، سان دوني، سان تروبي، سان سيباستيان... معظم أحياء فرنسا يلقي عليها قديسو العصور القديمة ظلالهم وسيوفهم وأسماءهم. الفرْق بيننا وبينهم هو الفرق بين زوار متحف وبين مومياءات معروضة فيه. هم الزوار ونحن المومياءات. لقد انتقدوا أسلافهم بعنف وأخذوا منهم ما ينفعهم ثم حنّطوهم ليبقوا عبْرة للأحفاد، في الوقت الذي اعتصمنا نحن في الماضي وقرّرنا ألا نخرج منه مهما حدث. اخترنا أن نعيش في عصر واحد مع أجدادنا إلى ما شاء الله... لكل حيّ قديسوه وثواره وجنوده المجهولون والمعروفون. ولكل شارع تفاصيله وحزنه وأحلامه وتاريخه الهادئ والصاخب والغاضب. لا أعرف لماذا أنتهي في سان ميشال كلّما همت على وجهي في هذه المدينة. يجرّني إليه باستمرار هذا الشارع الملتوي مثل حبل طويل في الدائرة الخامسة. من الجسر الذي يجاور نوطردام إلى ما وراء حدائق الليكسومبورغ. حين تكون ذاهبا في اتجاه الحدائق، تجد على يسارك جامعة السوربون تجثم مثل فكرة حجرية هائلة. هنا صنعت فرنسا الحديثة. من هذا المختبر، خرجت أهمّ الأدمغة الفكرية والسياسية والأدبية الفرنسية. بناية عتيقة بالأسلوب القوطي، ظلّت مركزا للعلوم المسيحية منذ القرن الثالث عشر، قبل أن تشتعل المعرفة وينفذ إليها الضوء ويجدّدها المعماري جاك لوميرسيي في القرن السابع عشر، بطلب من الكاردينال ريشليو الذي ينام هادئا تحت سقف إحدى بناياتها. معلمة هادئة، بسيطة ومعتدة بنفسها. تنتشر حواليها المقاهي والمكتبات وساحة السوربون حيث يحتشد الطلاّب وتأتي فرق موسيقية لتعزف أنغامها تلقائيا بلا مواعيد أو تراخيص مسبقة. في ماي 1968 احتل الطلاب الغاضبون هذه الجامعة. جاؤوا من نانطير بالضاحية الشمالية واعتصموا في المدرجات ووسط الساحة، قبل أن ينتشروا على طول الشارع واضعين حواليهم المتاريس وجذوع الأشجار، رافعين راياتهم الحمراء وأحلام الثورة الوردية. هنا اندلعت المواجهات بين رفاق كوهن-بينديت وشرطة الجنرال دوغول المرتبكة، خلال إحدى الانتفاضات الأكثر طرافة في التاريخ المعاصر. غير بعيد، يوجد مسرح لاهيشيت الصغير حيث تعرض مسرحية «المغنية الصلعاء» و»الدرس» ليوجين يونيسكو منذ أكثر من نصف قرن. بنفس الإخراج ونفس الملابس ونفس السينوغرافيا ونفس الممثلين. تجرفك الشوارع الضيقة فتجد نفسك في متاهة من المطاعم والفنادق والحانات. موسيقى صاخبة تخرج من محلات تشبه كهوفا سحيقة مزينة بالشموع والمنحوتات وأطراف الخنازير المشوية. أطباق من كل مطابخ العالم: إغريقية وصينية ومغربية ولبنانية ومكسيكية وإسبانية وإيطالية ويابانية... عند باب كل مطعم يقف شخص ببذلة أنيقة. يعلّق على شفتيه ابتسامة صفراء ويحثّ العابرين على الدخول لتناول وجباته «الرائعة»، بطرق لا تخلو من استفزاز. وأنت تتجول في الحي اللاتيني، يصعب كثيرا ألا تتذكر مطاعم الطنجاوي في قلب مدينة الرباط العتيقة. حيث أطباق الكرعين والبيصارة والطجين والأسماك النتنة، والأشخاص الليليون الذين يستدرجونك للجلوس، ببزات بيضاء متسخة ووجوه ينخرها السهر والبؤس، وبابتسامات حقيقية.