يصل إلى العاصمة السورية دمشق صباح اليوم (الثلاثاء) السيد رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي، على رأس وفد كبير يضم حوالي عشرة وزراء والعديد من المسؤولين ورجال الأعمال، حيث من المقرر أن يوقع أكثر من خمسين اتفاقية تعاون في مختلف المجالات، قد يكون من بينها التنقل بالبطاقة الشخصية لمواطني البلدين. ولكن هذه الزيارة رغم أهميتها الاستراتيجية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فإنه من غير المتوقع أن تحظى بربع الاهتمام الذي حظيت به زيارة السيد سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان، إلى دمشق قبل يومين. لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية زيارة السيد الحريري لسورية بعد قطيعة استمرت حوالي أربع سنوات تقريبا، جرت خلالها مياه كثيرة تحت جسر العلاقات بين البلدين، ولكن اللافت أن قصائد المديح التي جرى تدبيجها إشادة بشجاعة الشيخ الحريري بإقدامه عليها، أو سعة صدر الرئيس السوري بشار الأسد بالتسامي عن بعض الأحقاد والمرارات، أخفت الظروف والملابسات التي فرضتها في مثل هذا التوقيت، وما يمكن أن يترتب عنها من متغيرات إقليمية. لا بد من الاعتراف بأن النظام السوري أثبت براعة غير عادية في قلب كل المعادلات الإقليمية والدولية لصالحه، وفي زمن قصير. فمن كان يصدق قبل أربع سنوات أن أركان تحالف الرابع عشر من آذار، والشيخ الحريري بالذات، «سيهرولون» فرادى وجماعات إلى العاصمة السورية، متطلعين إلى مصالحة استراتيجية، ومعترفين بالزعامة الدمشقية، ومسلمين بالنفوذ السوري في بلدهم؟ الطريقة التي استقبل بها الرئيس السوري بشار الأسد ضيفه اللبناني، وخروجه عن كل البروتوكولات المرعية في مثل هذه الزيارات، يجسدان الدهاء السوري في أفضل صوره وأشكاله. فمن رصد تعبيرات وجه السيد الحريري ساعة وصوله إلى مطار دمشق، وساعة مغادرته، يخرج بنتيجة مفادها أن الرجل «مسه سحر»، وبات غير مصدق لما رآه من أناس من المفترض أنهم أشد الأعداء، تحالف مع قوى خارجية للإطاحة بهم وخطط للإطاحة بنظامهم. الحكم السوري -الذي كان يعيش أسوأ أيامه بعد اغتيال الحريري الأب، وخروج قواته بشكل مهين من لبنان، وتزاحم القرارات الدولية لفرض العزلة عليه، و«جرجرة» مسؤوليه الأمنيين أمام لجان التحقيق الدولية في دمشق وفيينا وبيروت- هذا الحكم، اتفقنا معه أو اختلفنا، استطاع أن يقلب كل المعادلات الإقليمية والدولية، ويكسر العزلة المفروضة عليه ويعود لاعبا عاما في المنطقة مستردا دوره الاستراتيجي. ومن المفارقة انه في الوقت الذي نجح فيه الحكم السوري في كسر عزلته الإقليمية والدولية، من خلال فتح قنوات استراتيجية جديدة مع تركيا، وتعزيز القديمة مع إيران، ومدّ جسور الحوار مع فرنسا، نجد أن الدول التي حاولت وبذلت الكثير لتهشيمه واغتيال صورته، هي التي تعيش العزلة حاليا وتواجه مشاكل أخطر بكثير من تلك التي كان يواجهها الحكم السوري في لبنان، الثغرة التي تسلل منها هؤلاء لمحاصرته واستنزافه سياسيا وأمنيا. فالمملكة العربية السعودية، التي كانت رأس حربة جهود العزلة الإقليمية، باتت تعيش حرب استنزاف دموية في جنوبها ضد الحوثيين، وتراجع نفوذها بشكل ملموس في لبنان، وبات حلفاؤها يعيشون حيرة وضياعا سياسيين، ويتصرفون مثل «المضروبين على الرأس» بعد زيارة زعيمهم الحريري الأخيرة لدمشق. أما مصر التي جرجرها نظامها إلى المستنقع اللبناني، مجاملة للمملكة العربية السعودية، فباتت تعيش في عزلة إقليمية غير مسبوقة، فعلاقاتها مع الجزائر سيئة للغاية على خلفية حرب مباريات كرة القدم الأخيرة، وكذلك الحال مع تونس منذ مقاطعة الرئيس حسني مبارك للقمة العربية المنعقدة فيها قبل ثلاثة أعوام، ومتوترة جدا مع سورية، ويمكن وصفها بالباردة مع نصف المعادلة السياسية الفلسطينية (فتح)، وملتهبة مع النصف الآخر (حماس) بعد بناء الجدار الفولاذي العازل، تنفيذا لإملاءات أمريكية وإسرائيلية. لا نعرف كيف سيكون شعور المسؤولين المصريين الذين قاطعوا سورية، بل وأعلنوا الحرب عليها بسبب موقفها في لبنان، وهم يرون السيد الحريري (الابن) يهبط بطائرته في مطار دمشق، ويسرّع الخطى لمعانقة الرئيس السوري بشار الأسد، ثم يخرج من اجتماع جرى بين الاثنين لوحدهما واستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وابتسامة عريضة على وجهه وكأنه عثر على كنز. السياسيون اللبنانيون، الذين تهجموا بطريقة بذيئة على سورية وشعبها في ذروة الأزمة بين البلدين، يظهرون بكثرة على شاشات التلفزة اللبنانية، ويتحدثون بطريقة اعتذارية عن هذه المواقف، مبررينها، مكررين الدرس الذي يحفظه تلاميذ المدارس الابتدائية بالقول «في السياسة لا توجد علاقات دائمة، ولا صداقات دائمة، بل مصالح دائمة». هذا كلام جميل، فطالما أنهم يحفظون هذه المقولة عن ظهر قلب، فلماذا لم يعملوا بأصولها، أي عدم الانزلاق إلى أساليب التهجم، والردح السياسي، والاستقواء بالسفارات الأجنبية، وشخصنة الخلاف بعد تسييسه؟ زيارة السيد الحريري لدمشق أثبتت هشاشة التحالفات على الساحة اللبنانية، وكونها بيوتا من رمل تنهار مع أول موجة إقليمية. فأين تحالف الرابع عشر من آذار، وكيف سيتعاطى كتحالف مع الأوضاع اللبنانية بعد هذه الزيارة؟ نقطة التحول الرئيسية التي كانت وراء انهيار لعبة الدومينو في لبنان، وتساقط أحجارها الواحد بعد الآخر، هي المملكة العربية السعودية وقرار عاهلها الخروج من دوامة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، وتحرير بلاده من هذا العبء الثقيل الذي هزّ صورتها، وجعلها تتصرف بعقلية قبلية ثأرية، وليس بعقلية الدول الحديثة التي تضع مصالحها الاستراتيجية على قمة أولوياتها. فمن غير المنطقي رهن الحركة السياسية لدولة إقليمية عظمى، وشلها كليا، بسبب جريمة اغتيال رجل، بما في ذلك التخلي عن حليف استراتيجي مثل سورية، وفك أضلاع مثلث معها ومع مصر حكم المنطقة لثلاثين عاما. المصالحة السورية السعودية، رغم بعض جوانب البرود فيها ونقاط الخلاف على أكثر من ملف، وخاصة إيران وتفرعاتها (حزب الله وحماس)، أدت الى تنفيس الاحتقان في لبنان، والاتفاق على عودة الصيغة القديمة، أي المشاركة في إدارة لبنان، بحيث تموِّل السعودية، وتتولى سورية الشؤون السياسية. الخاسرون كثر على الساحة اللبنانية من عودة الحريري إلى بيت الطاعة السوري، مقتنعا أو مكرها، ولكن يظل وليد جنبلاط هو الخاسر الأكبر لارتكابه أخطاء لا يمكن أن يقدم عليها سياسي مبتدئ، عندما ذهب بعيدا في هجومه على سورية بألفاظ نابية، معتقدا أن أيام النظام السوري باتت معدودة، وأن مصيره ربما يكون أسوأ من مصير نظام البعث الآخر في العراق. السوريون لن يتعجلوا استقبال السيد جنبلاط، فمعظم ألوان الطيف السياسي اللبناني باتت في جحرهم، فهناك حزب الله، وهناك الجنرال ميشال عون، وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى، درزية (جناح أرسلان) أو مسيحية (سليمان فرنجية)، والآن جاءهم السيد الحريري بقضه وقضيضه.. فلينتظر جنبلاط قليلا، حتى لو زار دمشق، فإن زيارته لن تكون ذات قيمة، وتحصيل حاصل، بعد أن فازت دمشق بالسمكة الحريرية الكبرى. الحكم السوري، وباختصار شديد، يعيش أفضل أيامه، فكل تطورات المنطقة تسير لصالحه، في الوقت الراهن على الأقل، وكلمة السر في ذلك برغماتيته وقدرته على لعب الأوراق الإقليمية التي في يده بشكل ذكي، وليس هناك أبرع منه في جمع الأوراق، ولكن لا بد من التذكير بأن الاختيار الحقيقي الذي سيواجهه في العام الجديد هو كيفية تعاطيه مع الملف الإيراني، فالعام المقبل هو عام إيران حتما، عام التعاطي مع برنامجها النووي، سلما أو حربا.