سواء تعلق الأمر بالتفكير في السياسة أو التفكير سياسيا، فإن فهم الواقع لا يعني استقلالية وصمت المهتمين والمثقفين والطلبة والعاطلين والمواطنين أمام جسامة النتائج الوخيمة التي يستشرفونها انطلاقا من قراءتهم للأوضاع كثيرون من يطيب لهم أن يتحرشوا بالديمقراطية ويروضوها بمزاجهم الخاص لخدمة مصالحهم أو مقربيهم. وكثيرون من يطبقون على الديمقراطية بملاقط من حديد فيعطلون آمال وطننا في التغيير ويحجزون أمل الإنسانية في التقدم والتحضر والمعرفة ويغرقون المجتمع في حالات من الاستعباد والاستبعاد الاجتماعيين. مما يسهل استمرار بنيات الهيمنة كما بسطها غرامشي وبورديو وهابرماس وغيرهم كثير. ويجعل شعار الانتقال الديمقراطي شيكا على بياض. إن حساسية المجتمع المغربي سياسيا وثقافيا ترشح بأزمة خانقة لها مبرراتها ومظاهرها المتعددة، وما أفرزته «السوق السياسية» إبان انتخابات 12 يونيو 2009 جدير بأن يرسم صورة المغرب المعاصر الذي تحول إلى مشروع دولة تنحت بداياتها ومستقبلها بأيدي مخربين ومخرفين شاخت الوعود في عقولهم. لا شك أن واقع الانتخابات الجماعية والبلدية قد أفرز كائنات انتخابوية طويلة اللسان، ومسؤولين منضوين تحت شعار «دع الأمور تسير على أعنتها»، يصدرون بين الفينة والأخرى لهجات سياسية مقمطة بأردية ديمقراطية مزيفة. هذا إن علم الكثير منهم في الجماعات القروية اسم الحزب الذي ترشح باسمه، فبالأحرى العمل السياسي ومعنى الديمقراطية. أليس هذا مدعاة للعزوف السياسي، وتخريبا لمسيرة البناء الديمقراطي والتنموي في بلادنا؟ في هذا المساق إذا جاز لنا أن ننتصب في محراب حكمة سبينوزا حول «بؤس العالم، لا تحزن، لا تضحك، لا تكره، ولكن افهم»، يمكن اعتبار الفهم مدخلا أوليا للمشاركة السياسية في فهم هذا الواقع، المشاركة التي لخصها العديد من الناس في «الحركة الانتخابية» أو «الموسم الانتخابي» الذي تزامن مع مواسم الصيف وتقاسم معها العديد من مظاهر الميوعة والانفلات. فسواء تعلق الأمر بالتفكير في السياسة أو التفكير سياسيا، فإن فهم الواقع لا يعني استقلالية وصمت المهتمين والمثقفين والطلبة والعاطلين والمواطنين أمام جسامة النتائج الوخيمة التي يستشرفونها انطلاقا من قراءتهم للأوضاع، وما يجري في هذا الوطن الذي تسلل الانتهازيون إليه ليلا ونهارا ليسوقوه بعيدا عن أعين الناس وليتفننوا في نهبه. إن أزمة المجتمع المغربي أزمة حقيقية، وإن كان عدم الإقرار بهذه الأزمة أمرا محرجا، لكن فهم طبيعة هذه الأزمة قد يكون دغمائيا لدى الكثير من المسؤولين، وهذا طبعا يبقي بذور الفشل متوارثة في كل حقبة سيعيشها المغرب مستقبلا، ما لم يتم الإقرار بهذه الأزمة إسوة بكبريات الدول الغربية، وبعدها اجثتات أسبابها من جذورها. فما جرى مؤخرا حول مقاضاة ثلاث جرائد، وما أسفرت عنه انتخابات 12 يونيو 2009 يقر بواقع محزن ومضجر ومثار للسخرية، إذ إن بعض المنتخبين حولوا الانتخابات إلى مشروع تخريبي مضلل بشكل مدوخ جدا. فعلى سبيل الذكر لا الحصر جماعة مولاي عبد الله في الجديدة لها مزاج خاص في الفقر كما في الثراء، في التسيير كما في التبذير، فهي من أغنى الجماعات في المغرب لتعدد مداخليها وتضخم ميزانيتها ومع ذلك تكثر فيها البطالة والفقر وغياب المرافق التربوية والتثقيفية وتردي الطرق وغياب مواصلات تفك العزلة عن العالم القروي. لو قدر لليفي شتراوس أن يعاين سلوك الناخبين والمنتخبين في بعض المناطق لاستعصى عليه أمر حصر المرحلة التي يعيشها هؤلاء في بلد منخرط في قضايا إقليمية ودولية: هل هي حياة الطبيعة، حياة الثقافة المعقدة؟ وأين الأمر من الالتزام السياسي والوجود المدني؟ إنها بكل بساطة حياة فراغ في فراغ، تكررت في العديد من المناطق المغربية فأفرزت مجالس على أرجل من طين. إن العديد من الظواهر التي شابت انتخابات 12 يونيو 2009، مسيئة لمسار المسلسل الديمقراطي خاصة إذا استحضرنا جميعا الحياد السلبي للسلطة ناهيك عن استثمار المال الحرام أثناء الحملة الانتخابية والولائم وتكوين مليشيات مارست عنفا راح ضحيته العديد من المواطنين، وانتشار ظاهرة أخرى تزامنت مع الحملة، وهي ظاهرة امتحانات الترقية الخاصة بموظفي الجماعات لضمان دعم رؤساء جماعتهم، وتأجيل المشاريع لتنفيدها إبان الحملة الانتخابية لضمان أصوات المستفيدين منها. ناهيك عن استغلال كل الوسائل اللوجستيكية للجماعة في الحملة. وهناك ظاهرة أخرى تعلقت باستثمار الوارع الديني بأداء القسم للتصويت على مرشح بعينه مقابل مبالغ مالية قدرت ب 200 درهم. كما أن التحالفات التي رافقت المجالس قد أبرمت في العديد من الاتجاهات وإن كانت غير طبيعية، كالتحالف مع الخصوم التاريخيين وما رافقتها من احتجاجات وعنف واستنجاد بالملك في بعض الأحيان. فإذا كانت الديمقراطية ترتبط بوجود برلمانات وتمثيليات شعبية، فإنها ببساطة شديدة تعني الإنابة المراقبة، وليس إنابة مطلقة، ترهن السياسي رهنا سحريا وتجعل المنتخبين يفكرون في مكان المواطنين ويغيرون حقيقة إراداتهم واختياراتهم بتزوير حقيقة الأصوات التي أدلوا بها إبان اقتراع 12 يونيو 2009، لكن السؤال المطروح هو هل ستكفل العدالة حق المواطنين وترشد السلوك الانتخابي بإحالة المزورين والمشرفين عنهم على القضاء لترسيخ مسلكيات مواطنة حقيقية؟ إن العدالة وحدها السلطة التي تعلو فوق كل الأشياء، سلطة غير قابلة للاختزال والتفكيك كما أعرب عن ذلك فوكو وديريدا. إن حكاية المستفيدين من تردي الأوضاع الثقافية والسياسية والاجتماعية في بلادنا، شبيهة بحكاية صينية قديمة أدرجها ماوتسي تونغ، صانع التحول في بلاد التنين، عندما سأله احد الصحافيين عن أوضاع الإنسان الصيني، إذ قال: ذات يوم سار مالك الحزين على شاطئ فوجد بلح البحر فلما اقترب منه أطبق بلح البحر على منقاره ودار حوار بينهما فقال له بلح البحر ستموت، فرد عليه مالك الحزين ستموت أنت أيضا من الجفاف، واستمر الحديث بينهما، فمر صياد فاصطادهما معا: وسئل «ماو» مرة ثانية. هل كان الصياد سوفياتيا، أم أمريكيا؟ أجاب ربما أمريكيا، لكن من الصياد عندنا والمستفيد من الأوضاع، هل هو المواطن؟ بالطبع لا. إنه أعزل، بل المستفيد هو الذي لا ذرة للوطنية والمسؤولية والإنسانية في قلبه وشرايينه، همه الوحيد الثروة والنهب والافتراء على المواطنين بطريقة الأمريكيين، إن جزءا من هذه المشاكل يفسر أسباب العزوف السياسي.