بالصدفة، أعدت الاتصال، هذه الأيام، بتلك الرباعيات التي أبدعها الفارسي عمر الخيام، منذ زمن قديم. قرأت، من جديد، ترجمتها إلى العربية على يد أحمد رامي الرقيق؛ وكما لو كنت أكتشفها لأول مرة، تذوقتها بكثير تأمل وأنا أقارنها مع ترجمة فرنسية كاملة صدرت، في طبعة قديمة، في شكل كتيب صغير. وجدتني أميل إلى الترجمة العربية لأنها كانت الأقرب إلى الروح التي كتبت بها النسخة الفارسية، ولأنها عكست، بصدق كبير، الحكمة التي تزخر بها الرباعيات والتأملات الجميلة التي تغنى بها الخيام. ولعل السر في شبه الكمال هذا الذي عُربت به الرباعيات يكمن، أولا ونهائيا، في أن الإثنين شاعران متميزان، يمتازان بعمق التأمل، الذي يذهب إلى حد التفلسف عند الأول (ولا غرابة في ذلك ما دام الخيام كان فيلسوفا ورياضيا وفلكيا كذلك)، ويغرق في الرومانسية عند الثاني. إلا أن ثمة سرا آخر وهو المتعلق بأن أحمد رامي تخلص من عبء الترجمة كواجب لغوي وانتقل، بحس عال، من سطحية التعبير إلى عمق الإدراك وتحويل المعاني إلى قوالب اللغة العربية بما تحمله من قواعد وتشبيهات واستعارات وصور... في الأدب، كما في أي حقل معرفي آخر، يفترض في المترجم أن يكون متمرسا على لعبة التخلص من رقيب الكلمات إلى حرية المعاني، من خلال الإيمان بالقدرة على تجاوز السطحية إلى روح المعنى. وبقدر ما تبدو العملية سهلة، بقدر ما يصعب تطبيقها بالشكل الصحيح الذي لا يؤذيه ذلك الشد الداخلي إلى النص الأصلي المستحوذ على المترجم بدافع الوفاء والإخلاص لهذا النص. هي ميزة تتطلب، أولا، إلماما كبيرا بمعنى النص الأصلي، وبلغته وتحكما كبيرا في أدوات التعبير والتحرير باللغة التي يراد نقل النص الأصلي إليها. كما تتطلب إحاطة كافية بالبيئة اللغوية وما تتضمنه من مقابلات لبعض الخصوصيات التعبيرية الخاصة في لغة النص الأصلي؛ لأن الجهل بذلك قد يُسقط المترجم في مطب التعبير الركيك الذي يخون المبتغى الأساسي من عملية الترجمة برمتها. الترجمة، إذن، هي إنتاج لنص جديد يتطابق، على مستوى روحه، مع النص الأصلي، مع خضوع النص المنتج إلى كافة الضوابط المتعارف عليها في اللغة التي يترجم إليها النص الأصلي. معنى ذلك أن لا ينتاب القارئ الشعور بأنه بصدد قراءة نص فاقد لتجانسه الطبيعي. لكن، ثمة إكراهات قد تحول دون النجاح في إنتاج نص بمواصفات الوفاء لروح المعنى، وهي إما مرتبطة بطبيعة النص الأصلي، وإما مرتبطة بالأسلوب الذي صيغ به النص الأصلي. أما المستوى الأول، فهو ذاك الذي يرهن التعبير في مجال تقني صرف يقلص، أو يحد نهائيا، من حرية التصرف في التعبير عن المعاني. وغالبا ما تصادف هذه النصوص في المجالات العلمية وتفرعاتها المتخصصة. وتزيد صعوبة تحويل المعاني هنا بتزايد حدة القصور الاصطلاحي في اللغة التي يُحوَّل إليها النص نتيجة تخلف وتيرة الاجتهاد اللغوي في مسايرة التطور العلمي؛ هنا تتجلى إحدى معضلات عالمنا العربي ولغتنا التي لا تحيط بكل الاصطلاحات الجديدة نتيجة غياب، أو ضعف، العمل المشترك في هذا الباب. أما المستوى الثاني، فمرتبط بطبيعة التراكيب التعبيرية في اللغة وبقابلية استعمالها في قوالب مشابهة لقوالب لغة ثانية. فمن المعروف أن لكل لغة بنيانها؛ هذا البنيان هو الذي يسمح للغة دون أخرى بالتعبير عن معان بطريقة قد لا يوجد نظيرها في لغة أخرى. وعليه، فلما يتعلق الأمر بمحاولة الوفاء لنفس أسلوب التعبير في اللغة المنطلق، تصعب المهمة لأن لغة «الوصول» تعلن الرفض عن استيعاب نفس الصيغ التعبيرية حين المحاولة، فيضيع ذلك المبتغى من محاولة الإخلاص لنفس الأسلوب، علما بأن جل الأساليب اللغوية تخدم وظيفة معينة تتطلب من المترجم محاولة الوفاء لها في لغة «الوصول». ولمزيد من التأمل في الصور المحولة بعمق الحس والروح، قبل الامتثال الأعمى لسلطة اللغة، هذه رباعية جاد بها شاعر وأبدع في تحويلها آخر: غد بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظن في المقبل ولست بالغافل حتى أرى جمال دنياي ولا أجتلي