الذين يشاهدون صورا لملاعب الكرة في المغرب زمن الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، وحتى بعد ذلك بقليل، يصابون بالدهشة. وتزداد دهشتهم أكثر حين يتطلعون إلى تفاصيل الجمهور الحاضر في هذه الملاعب. الناس في ذلك الزمن كانوا يرتادون ملاعب الكرة، أو حتى ملاعب مصارعة الثيران في بعض مدن الشمال مثل طنجة، كما لو أنهم يحتفلون بمناسبة خاصة.. نساء ورجال في كامل الأناقة، أطفال يرتدون ملابس قشيبة وكأنهم في يوم عيد، رجال بجلابيب مغربية أو ببذلات أنيقة وربطات عنق وشعر مصفف، ابتسامات عريضة نابعة من القلب. ولو أن للصور رائحة، لفاحت منها رائحة عطر أولئك الناس الذين كانوا يرتادون الملاعب في أبهى حلة وكأنهم مدعوون إلى عرس، وهم خليط من المسلمين والنصارى واليهود، وبينهم أيضا هنود وجنسيات أخرى. في كل المدن المغربية زمن الاستعمار وبعده بقليل، وخصوصا في المدن الكبرى كالرباطوالدارالبيضاء وطنجة ومراكش ومكناس وفاس ووجدة وغيرها، كان الناس يحتفون بالحياة كما يجب، وملاعب الكرة كانت جزءا مما يحظى بالاحتفاء من لدنهم، وكثير من الأسر كانت تصحب أطفالها إلى ملاعب الكرة في ذلك الزمن الجميل. اليوم، وبعد كل هذه السنوات العجاف منذ زمن الاستقلال، هل يمكن اليوم لأسرة مغربية أن تغامر وتذهب بكل أفرادها إلى ملعب لكرة القدم في المغرب؟ سيكون ذلك حماقة مميتة، لأن الملاعب المغربية أصبحت مدرسة حقيقية في كل أنواع الشتائم والكلام البذيء وقلة الحياء. والأب الذي يريد أن يفقد احترام طفله في أقل من ساعة يجب أن يصحبه معه إلى ملعب كرة. هناك سيتعلم الطفل في بضع دقائق من البذاءة ما لن يتعلمه خارج الملعب في سنوات. في ذلك الزمن الجميل، زمن الاستعمار للأسف، كان الناس يقفون في الطابور وكل واحد يشتري تذكرته ويجلسون في الملعب بوقار مدهش، واليوم يقفز الآلاف من المنحرفين فوق أسوار الملاعب ويدخلون الملعب بالمجان ويحولون المباراة إلى أوبرا حقيقية في أهازيج الكلام الساقط. ما يحدث في ملاعب الكرة المغربية لا أعتقد أنه يحدث في ملاعب أخرى من العالم. وفي إسبانيا التي يغلي جمهورها حماسا بحب الكرة، تتبعت ريال مدريد في إحدى مبارياته في ملعب سانتياغو بيرنابيو ولم أسمع كلمة واحدة خادشة للحياء. هناك شتائم طبعا، لكن الناس يعتبرونها عادية وناتجة عن فورة حماس طبيعي. ومرة، دخلت ملعب نوكامب في برشلونة وجلست قريبا من مكان عادة ما يجلس فيه جمهور «الأولترا»، أي الأنصار الذين لا يتوقفون عن شرب الجعة والصراخ. وطوال المباراة، ظل حفنة من أولئك الصعاليك يشتمون ريال مدريد ويشربون من دون أن يؤذوا أحدا بالمرة، وكنت متأكدا من أن لا أحد منهم رأى شيئا في المباراة. المهم أنهم استمتعوا وهتفوا لأزيد من ساعة ونصف ولم يؤذوا أحدا ولو بالكلام، وقربَهم كان أطفالٌ ونساءٌ. وقتها، تذكرت يوم كنت في ملعب الأمير مولاي عبد الله بالرباط لمتابعة مباراة للمنتخب، وكانت أسرة مكونة من أب وأم وطفلين تجلس غير بعيد عني. اقترب من الأسرة شاب مخبول وبدأ يهتف بهستيريا غريبة ويتلفظ بكلمات نابية. وكأن ذلك لم يكن كافيا فإنه بدأ في التجرد من ملابسه بالكامل.. أصيبت الأسرة بالفزع، ولم ينقذ الوضع سوى رجل أمن أعاد الوعي مؤقتا إلى رأس الشاب المخبول بضربة عصا مركزة. في تلك المباراة، كان جمهور الرباط يتبادل شتائم فظيعة مع جمهور الدارالبيضاء، وفي الوسط كان المنتخب المغربي يلعب من دون أن يأبه له أحد. إذا أردت أن تعرف أخلاق شعب ما فادخل ملعبا للكرة، وملاعبنا والحمد لله «باناتشي» حقيقي من الشتائم التي لا يمكن العثور عليها في كل قواميس الشتائم العالمية.