بيننا وبين عصر العلم مسافة ثلاث سنوات ضوئية!! الحوار بين الإيديولوجيات والأديان في العادة طريق مغلق، لوجود عقبة لا يمكن تجاوزها، من الشعور بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة، وكامل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، وعند الآخرين لا حقيقة، بل باطلا من القول وزورا.. وحين نقول تجتمع الأديان لحرب الإلحاد؛ فكل صاحب ديانة يعتبر بقية الديانات إلحادا وبهما. ولم تشتعل حرب في تاريخ البشر كما شنها أصحاب الأديان والإيديولوجيات، ضد بعضهم البعض، من الحروب الدينية البغيضة بل والعالمية، بين الشيوعية والنازية والفاشية. ولعل أفظع وأطول الحروب الدينية كانت الحروب الصليبية التي شنها الأوربيون في التاريخ، ولمدة 171 عاماً في سبع حملات صليبية، بين عامي 1099 و1170 للميلاد، فيها رسم الصليب على السيف والصاري والشراع والعلم، بل والصليب المعقوف للنازيين، ولم تنته بعد بل استكملت بالحملة الثامنة عام 1948 لاحتلال القدس من جديد، والحملة التاسعة لاحتلال بغداد والشرق الأوسط، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والعيب ليس فيهم بل فينا، فالنسور تحلق حيث الجيف، ولذا يجب أن يطرح السؤال، ليس لماذا جاءت أمريكا للعراق، بل لماذا يجب أن تأتي أمريكا إلى العراق؟ فهذه قوانين وجودية في الامتلاء والانفراغ.. فالماء يسقط من علو، والصراصير تملأ البيت الوسخ، والبعوض يفقس مع المستنقعات، والغربان تحلق على الجثث، وطير النورس يحط حيث فتات السمك، والاستعمار يملأ فراغ القابلية للاستعمار؛ فتذهب هولندا لتركب رقبة أندونسيا، مثل أرنب على ظهر تمساح، بألف جزيرة، يقوده بحبل؟ واليهود يزحفون إلى فلسطين، على ظهر كل مركب، لانهيار دولة آل عثمان، وغياب العرب عن إحداثيات التاريخ والجغرافيا. وتجربة النبي (ص) مع نصارى نجران في الحوار كانت عجيبة، فهو الذي استضافهم في مسجده، وحاورهم فلجوا، ودعاهم في النهاية إلى المباهلة فأبوا، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، وقالوا لا تذرن آلهتكم؟ وقصة هرقل بعد سؤال أبي سفيان عن محمد (ص) ثم انفراده مع القساوسة ونفورهم من الإسلام درس كبير؛ ومشكلة الأديان هي في المؤسسات ورجالها، حين يصبحون عائقا في نفس طريق الديانة؟ لأن مجيء الإسلام كان إعلان ولادة العقل ووداع الإيديولوجيات، وهو السر خلف فكرة إلغاء النبوة مع مجيء النبوة، في فكرة ثورية جدا بإعلان ولادة العقل الاستدلالي، وتوديع العقل النقلي، واستبدال عكازات الأحكام الجاهزة بساقين من العقل قويتين للمشي، فهذا هو أعظم ما في النبوة في إلغاء فكرة النبوة، كما يقول محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني». كما كان في مفهوم القوة أن أعظم ما فيها أنها ألغت القوة مع انقداح النار النووية ونقل مليون درجة من باطن الشمس إلى وجه الأرض. يقول إقبال: «إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان كي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.. وإن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على النظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين، من مصادر المعرفة الإنسانية، كل ذلك هو صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة». إنها فقرة متألقة، ولكن العرب يمشون بالعكس فيعيدون عصر الأئمة والمعصومين ولو لم يكونوا أنبياء ومرسلين. كلمة الحوار براقة ومغرية وإنسانية، ومنذ جاء الأنبياء نادوا بولادة العقل فقال إبراهيم لقومه أفلا تعقلون؛ وكانت النتيجة أن أحرقوه؟ فجعلها الله بردا وسلاما على إبراهيم!!.. ذلك أن الحوار هو إعلان لولادة الرشد، وإعادة تشغيل مفاصل العقل. والحرب والعنف جنون وجريمة وإفلاس أخلاقي، ومع ذلك تزوج البشر الحرب وطلقوا السلام، وخلال ثلاثة آلاف سنة، سارت وتيرة الحرب بمعدل 13 سنة حرب، مقابل سنة سلام، يلتقط فيها الجنس البشري أنفاسه هدنة لمتابعة الحرب. تكرر هذا عند الساموراي والشراكسة والروس وقبائل قحطان والهنود الحمر وهنري الثامن في بريطانيا وملوك فرنسا وأباطرة الصين وملوك الازتيك في أمريكا الوسطى وحكام الأنكا في البيرو الحالية، وكانت ستة ممالك من ممالك أمريكا الجنوبية على امتداد ستة آلاف كلم؟.. أي أن الحرب كانت هي الأصل والأساس في مفاصل التاريخ، والدم هو عملة التبادل، وكانت الحرب هي قدر البشر وراسمة مصائرهم، كما بين ذلك هيروقليطس اليوناني، وفون كلاوسفيتس الألماني، وماوتسي دونج الصيني، وتيمورلنك المغولي، ومقاتلي الجوركا في قمم جبال إيفرست في نيبال والتيبت؟ فهي تدفع أمما إلى العبودية، وبشرا إلى السجون، وآخرين إلى السيادة وسلخ أبشار البشر! وفي كثير من أقطار العروبة، كان من تسلم مقادير الشعوب، ضباطا صغار السن، متهورين مغامرين، مازال بعضهم يحكم بأفضل من أباطرة المغول وقوبلاي خان، وصلوا إلى الصولجان بانقلابات عسكرية وبالدم والسلاح؟! مع ذلك، يتكلمون هم وأولادهم وأحفادهم عن السلام والحرية، أكثر من غاندي والدلاي لاما ومارتن لوثر كينج! وهم يعرفون سر الفتح المبين، وقصة الساطور والخنجر والطبنجة من عصر القراصنة.. لكنهم مع هذا رسموا أقدارا جديدة، لطوائفهم وعائلاتهم وعصاباتهم من المافيات المدربة على القتل، في الوقت الذي دفعوا فيه أعدادا وطوابير لا نهاية لها من الأنام إلى الحبس والقتل والفرار والغربة والهجرة والفقر، فاستحقوا أن يعبدوا من دون الله شركا وبطرا ورئاء الناس، ممن استفاد من وراء ظهرهم؛ فلا نتعجب أن هتفوا لهم بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم؟ وجنكيزخان وتيمورلنك كانا يغادران المدن بعد تشييد منارات وقباب من رؤوس تعساء تلك المدن، ولكنهما كانا يُقَدسان من قبيلتيهما، ويقرأ المغول الإلياسة من خط جنكيزخان الأمي، كما يقرأ المسلمون اليوم بشغف وقدسية كتاب الله المنزل من فوق سبعة أرقعة. وحين أفرج عن القنطار في لبنان، لم يخف الحقد بين الجانبين بمقدار واحد في المائة من القنطار؟ وحين أرى بدانة القنطار، بأكثر من قنطار وقصة زواجه، ودراسته وتحصيله العلمي في الحبوس الإسرائيلية، وما يحدث في المعتقلات العربية من قتل العشرات ودعس المصحف بالأقدام، أستطيع أن أبتسم بسخرية وحزن فقط؟ والبعد بين النظري والعملي في قضية الحوار والسلام، مثل اكتشاف ديموقريطس للذرة، وتفجيرها في لوس آلاموس بعد ألفي سنة. مع هذا فهو أمر مشجع ييأس الإنسان أبدا.. والقرآن يراهن على أن النافع هو الذي يبقى، وحين يتحول الدين علما يصبح عالميا، مثل حبوب الأسبرين والأشعة السينية، فبها عولج وشخص ماوتسي دونغ ونيكسون والدلاي لاما وميتران وكول.. وحين يجتمع رجال الدين أو السياسة فيتكلمون عن الحوار، فيجب اعتباره أمرا جيدا، لأنه مؤشر على أنه حان الوقت لولادة مثل هذه الأمور، ولكن لم يأت الحوار قط من جانب السياسيين أو رجال الدين، بسببين مانعين: الإيديولوجية والمجاملة. وبين حافتي الإيديولوجية والمجاملة يضيع العلم في اجتماعات يسودها غبار كثيف من الكلمات، فيكسب القاموس ألفاظ ميتة ويخسر الواقع حقائق حية.. وقصة جدل الإنسان عميقة لأنه وحش وملاك. والبارحة، أعياني استخدام جهاز الغاز في المنزل وهو جديد، لأنه يشحِّر ويسوِّد الطناجر، فكان من حل المشكلة فني صغير، باستبدال براغ صغيرة في مكان إرسال الغاز، فعرفنا أن الخبرة المتراكمة أهم بكثير من قصائد الغزل والهجاء. وهكذا هي خبرات التحاور أيضا، يتعلمها البشر بالخبرة الطويلة وبمعاناة طويلة مضطرين إليها. وفي الصومال والعراق، كانت فرصتهم فريدة كي يتخلصوا من الطاغوت أن يتحاوروا، فلم يتحاوروا، بل اقتتلوا، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد. وبين فتح وحماس اشتعل الاقتتال بكل حماس، مع وجود اليهود يتفرجون ويشمتون، لأن المرض عميق، والشقة بعيدة، والجهل بحر طام، والمفكر السعودي (البليهي) دعانا بجدية إلى تأسيس علم الجهل ولم يكن يمزح؟ فبيننا وبين عصر العلم مسافة ثلاث سنوات ضوئية!!