فيليبي غونزاليث ماركيث، اسم صنع الانتقال الديمقراطي في إسبانيا وأخرجها من النفق الذي عاشت فيه طيلة عقود طويلة، فقصته لا تعدو كونها قصة ابن بائع الحليب الذي ولد في مدينة إشبيلية وبها تربى، مقسما وقته بين الدراسة التي لم يكن لامعا فيها وقيادة شاحنة العائلة لجمع الحليب من صغار المزارعين، بل كان يأتي إلى الجامعة وسترته التي تحمل بقع الحليب تدل على عمله، لكن ذكاءه وقوة شخصيته سيجعلانه يلمع مثل نجم صغير سيكبر مع الوقت ليتحول إلى رمز للديموقراطية في العالم بأسره. إنها تفاصيل حياة تبدو عادية لرجل غير عادي. كان نشاط الاشتراكيين في إسبانيا مراقبا، لذلك فبعد سقوط اللجنة التنفيذية الداخلية السادسة بوفاة رئيسها الأعلى توماس سينتينو في القيادة العامة للشرطة عام 1953 بقيت نشيطة فقط القيادة الخارجية التي لم يكن لها ما يوازيها في الداخل وبقيت عموما غريبة عن الواقع الإسباني، بعد أزيد من عقد من الزمن من المنفى، ولكن عندما تكلف أنطونيو أمات بإعادة إحياء الحركة الاشتراكية في الداخل، كان يعلم أنه سيستطيع النجاح في مأموريته فقط لو حصل على استقلالية عن القيادة الاشتراكية في الخارج، بيد أن اعتقاله عام 1958، بجانب ثمانين مناضلا اشتراكيا بينهم المناضلون القلائل الذين كانوا ينتمون إلى إقليم الأندلس سيضع حدا للتجربة التي حاولت الانعتاق من وصاية قيادة الخارج. وكانت إعادة التشكيل البطيئة للحزب الاشتراكي قد بدأت منذ عام 1964 عندما اجتمعت في مدريد أربع عشرة فيدرالية تحت قيادة رامون روبيال، وهو الاجتماع الذي طرح فيه المحامي الإشبيلي فيرنانديث طوريس ضرورة فك الارتباط بقيادة الخارج وخلق جميع الأجهزة الضرورية لتمثيلية الحزب في الداخل سواء السياسية منها أو النقابية، ولقي هذا المقترح دعم عشر فيدراليات، لكن الفكرة وصلت بشكل خاطئ إلى قيادة الخارج التي بُلِّغَت بأن المحامي الإشبيلي طوريس اقترح تقسيم الحزب الاشتراكي لكونه يعمل مع الأجهزة الأمنية، ومنذ تلك الفترة تم إبعاد طوريس وتحول رامون روبيال إلى المبعوث الذي يحظى بالثقة ويربط بين قيادة الحزب والمناضليين السريين وقامت القيادة في فرنسا بطرد المحامي فيرنانديث طوريس، لكن ولغرائب الصدف فقد كان هذا الأخير هو ابنه فيرنانديث مالو إضافة إلى ألفونسو غييرا من قاموا بإعادة تشكيل الحزب الاشتراكي في مدينة إشبيلية خلال عقد الستينيات من القرن الماضي. وفي سنة 1966، انطلق مجددا النقاش بين الاشتراكيين في الداخل والخارج بمناسبة الانتخابات النقابية وأدى حجم الامتناع عن التصويت داخل اللجان التنفيذية للحزب الاشتراكي والنقابة إلى فسح المجال أمام تجمعات الاشتراكيين في مدريد وإشبيلية لانتقاد استمرار الارتباط القيادي باشتراكيي الخارج، وسيحتدم النقاش بعدها بعدة أشهر بمناسبة التصويت على القانون الأساسي للدولة، وسيتم خلالها وضع تحكم قيادة الخارج موضع نقاش، فبدون الاستشارة معهم كان هناك تعاون مع ملكيين وشيوعيين من أجل التصويت ب«لا» على القانون. وسيعود النقاش الداخلي ليحتدم في العام الموالي لنفس الأسباب على هامش المؤتمر العاشر للحزب عندما ناقش الجيل الثاني من الاشتراكيين المعروفين بجيل باريس الخط السياسي الذي يتبعه الجيل الأول في ما يخص التعاقد مع القوى السياسية الأخرى والمواقف السلبية التي يتخذونها، وكان موقف رودولفو لوبيس، الكاتب العام للحزب الاشتراكي يقوم على وضع الثقة في أي شخص وكانت تمنح العضوية في التنظيم فقط لأولئك الذين ينتمون إلى عائلة اشتراكية معروفة بالوفاء، وكان الجيل الجديد ينتقد فيهم مواقفهم التي اعتبر أنها متقادمة بحكم أن الحرب الأهلية كانت قد انتهت منذ سنوات طويلة. وفي ظل هذه الأجواء المشحونة سيقوم أنطونيو رامون ممثل اشتراكيي الخارج بإجراء اتصالات مع الشباب الاشتراكي في مدينة إشبيلية دون استشارة المسؤول عنهم فيرنانديث طوريس من أجل المشاركة في احتفالات اللجنة الوطنية للحزب الاشتراكي التي كان ينتظر انعقادها في بايونا، وهنا سيظهر اسم فيليبي غونزاليث لأول مرة. فبعد عدة اجتماعات بين الاشتراكيين في إشبيلية تقرر أن يحضر الاحتفالات الشاب فيليبي غونزاليث، وعنه قال مانويل تشافيث « كاريزماتية فيليبي غونزاليث فرضت نفسها على الجميع، فقد كان الأفضل لأنه كان الرجل الذي يملك أكبر قدرة على التحليل وموهبة الإقناع بطريقة جدلية، بل لقد كان شخصية محضرة لمثل هذه اللقاءات وهذه كانت هي الأسباب نفسها التي جعلت اشتراكيي الداخل ينتبهون اليه عندما تعمق الخلاف داخلهم حول سلطة الداخل والخارج، لقد كانت قدرة فيليبي على القيادة طبيعية». كان اجتماع اللجنة الوطنية للحزب الاشتراكي الإسباني في 14 يوليوز 1969 مهما، ففيليبي غونزاليث فوجئ بالجهل الحاصل إزاء العمل الذي يتم القيام به في إشبيلية وباقي مناطق الأندلس مثل مالقا وخايين، وكان اللقاء أول مواجهة بين غونزاليث و لوبيس الكاتب العام للحزب في فرنسا، وكان لقاء حاسما في مستقبله السياسي ويصفه غونزاليث بقوله « لأول مرة كان لي لقاء مع أنريكي موخيكا ونيكولا ريدوندو عندما انتهت أشغال اللجنة الوطنية وقالا لي: خذ في حسبانك أن هذا ليس هو الحزب كله، عليك بالصبر قليلا، فاتجاهات الحزب في الداخل تسير في مسارات أخرى وليس الجميع متفقا مع ما قاله لك لوبيس». وفي تلك الفترة كانت النواة الاشتراكية في إقليم الباسك إحدى أهم أسس الاشتراكيين في الداخل، وكان إنريكي موخيكا أحد أهم المندوبين الاشتراكيين في الداخل. وسيحكي موخيكا بعد سنوات عن مداخلة غونزاليث قائلا «بدت لنا مداخلة فيليبي مدهشة بحكم أننا لم نتعود على مثل هذا الخطاب، لأنه يجب أن نضع في الحسبان أنه داخل الحزب باستثناء مناطق الباسك وإستورياس اللتين كان يتوفر فيهما الحزب على فيدراليات لم تكن باقي المناطق لتضم أكثر من تجمعات صغيرة من المناضلين».