المغرب تقاطع شارعين على جسد..، هنا التاريخ ينبئنا بأن الجغرافيا لا تشبه السياسة، تفاصيل الجغرافيا متساكنة دون استحياء، بحار ومروج.. وصحراء، أما السياسة ففي حل من هذا، هنا السياسة نزوة.. تمارس بذهنية العائلة الممتدة، والمعارضة تقترف بذهنية التحريم، أما التاريخ ف»ذاكرة يثقبها الرعب» بتعبير أدونيس، يمكر بنا هذا التاريخ دون رحمة عندما ننظر إلى هؤلاء الساسة اليوم، وهم يطمسون هذه الذاكرة ويكابرون في الظهور كما لو أنهم أسياد قراراتهم وأرباب مشيئاتهم.. إنه الآن التاريخي يخترق إراداتهم بأصابع خفية تتعدى حتميتُها أفهامَنا.. يعدون ويكذبون، يتناطحون ويتصالحون، يتوافقون ويتشاتمون.. ويتواطؤون على التشابه، فهم واحد موزع على تنظيمات للوصول السريع.. جنسهم، عرقهم، أعمارهم، تكوينهم الأكاديمي، هي معطيات لا اعتبار لها.. إنما هم قناع بشري موحد لفكرة واحدة: ساسة للطابور الخامس، وكم يمكر بنا التاريخ أكثر إن صدقنا ابتهاجهم عندما توسم أحزابهم ب«الوطنية» أو «التقدمية».. ضدا على كل هؤلاء، يحيل هذا البيت الشعري للرائع مظفر النواب: «لوعدت لاتهمك الذين اتبعوك بالردة»، إلى مخاطب صريح، سياسي من طينة رجال الدولة، أسس على عاتقه تيار المعارضة في مغرب السنوات الدامية.. فاستطاع ضدا على كل هذا أن يصنع حزبا للشعب، وصوتا نقيا وواضحا لكل مغربي في أقصى الثغور المنسية والعميقة..، هذا عندما كانت باقي الأحزاب مجرد دكاكين تسير بالوكالة عن الأب وتحت وصايته الكاريزمية، إنه عبد الرحيم بوعبيد.. يختصر في شخصه إرادة شعب في التحرر من الاستبداد بكل أقنعته.. فإذا كان الطابور الخامس لا يلقي بالا للتاريخ.. فنحن في حضرة رجل مسكون بوعي تاريخي يقظ، فسجل له التاريخ مواقف تعتبر انتحارية في زمننا المغربي المرعب، بشكل يعجز عنه صغار القوم اليوم، ممن يكابرون ويمنون علينا «التناوب» المقلب.. ولما كانت المقارنة ممتنعة مع وجود الفارق، أخلاقيا على الأقل، خصوصا عندما نقارن السي عبد الرحيم بوعبيد بأتباعه اليوم، فإن تذكر بعض مواقف الرجل تجعلنا على بينة من حجم هذا الفارق؛ الرحلة الأسطورية للهمة من السلطة إلى السلطة، الانقلاب المأساوي للوديع من سجين رأي إلى ناطق رسمي باسم حزب أحادي الرأي، الانقلاب المرفوض أخلاقيا للراضي عن وعود ما قبل انتخابات حزبه، الاستئثار غير «الأممي» «للشيوعيين السابقين» بمهمة الناطق الرسمي بالحكومة مهما كانت هوية رئيسها، إلا «شباط» فهو الدليل على أن مكر التاريخ أصبح ماجنا.. خلال انتخابات 1977، قرر الملك الراحل إلحاق رؤساء عدد من الأحزاب بالتشكيلة الحكومية كوزراء دولة «لتمكينهم من متابعة ومراقبة تطور المسار الانتخابي»، حسب المبرر الرسمي، وبعد إغراق هذه المحطة بالتزوير السافر والمفضوح، استبق المناضل عبد الرحيم بوعبيد بإعلان استقالته، ورفض الاستمرار في موقع وزير الدولة، منتفضا ضد الأعراف القائمة، التي تمنع خطوة «إرجاع الهبة إلى صاحبها»، فنقارن هذه الخطوة، اليوم، بعدم قدرة الراضي على الوفاء بالوعود «الشجاعة» في مؤتمر «التزكية» الأخير.. غير أن الشجاعة ملحمة لا يكتبها إلا رجال من طينة السي عبد الرحيم.. وها هي سمعة الحزب في الحضيض. فها هو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، اليوم، مقبرة جماعية، تنظيم جماعي لهواجس شخصية، أحلام شعبية موؤودة على جدران المقرات، ومطالب أتقن الكتبة تعبئتها في شعارات، فكانت مجيشة لمشاعر التمرد والثورة في زمن السي عبد الرحيم، وأضحت مصدرا لمشاعر الشفقة اليوم.. الاتحاد، اليوم، ذكرى تنظيم، أطلال حزب يخشى المعارضة، دكان لتنشيط الانتخابات، ترأس حكومة التناوب لما كان المخزن يحتضر بالسكتة القلبية، وهاهو الطابور الخامس متشبث بالاستوزار حتى لما تم الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، ومهما كانت هوية الحكومة.. فالسكتة القلبية أيضا مرض معدٍ. إنه مكر التاريخ، فعندما يذهب الكبار إلى نومهم يصحو الطابور الخامس ليعلن للملأ يا رفيق لازلنا على الطريق.. فيما لو عاد الرفيق لاتهموه بالردة والعوز إلى الواقعية السياسية..