يخطىء كثير من الناس حين يعتقدون أن بإمكانهم الاكتفاء بنشرات الأخبار التلفزيونية بديلا عن قراءة الجرائد لمعرفة ما يجري في العالم حقا؛ ذلك أن الأخبار التي تنشرها الصحف لا يمكن العثور عليها في شاشة التلفزيون ولا في أي مكان آخر. ولذلك، دون شك، قال الفيلسوف الألماني الشهير فريديريك فيلهلم هيغل إن قراءة الجرائد صباحا هي فعل أشبه ما يكون بالصلاة (عند المسيحيين طبعا)، كما قال فيلسوف آخر إن «الصحف تساعد على توضيح الرؤية»، وهو قول حار الشرّاح والمفسّرون في تأويله إلى أن ضبطوا هذا الفيلسوف (الآخر) ذات يوم وهو يمسح زجاج نوافذ بيته بورق الجرائد التي انتهى مفعولها فيجعلها أصفى من البلّور، وحينها أدركوا مرمى كلامه الفلسفي العميق وصاروا من المدمنين على «توضيح الرؤية» بالصحف التي تضعها المقاهي رهن إشارتهم بالمجان. في الأسبوع الماضي وحده، مثلا، نشرت الصحف آلافا من الأخبار والحقائق والمعلومات التي يمكننا أن نقضي ثلاث سنوات من عمرنا أمام الشاشة الصغيرة، دون توقف، لكي نحصل على ربعها فقط. من بين هذه الأخبار نشير إلى ما نقلته الجرائد بخصوص مراهق أمريكي عمره 18 سنة اعتقلته السلطات الأمريكية بعد أن اتهمته بقتل تسع عشرة قطة في ولاية فلوريدا والتمثيل بجثثها على نحو بشع؛ حيث أورد الخبر أن الفتى، الذي وجهت إليه 19 تهمة تتعلق بالإساءة إلى الحيوانات وتشويهها، يمكنه أن يواجه في المحكمة «فترة عقوبة تصل إلى 158 سنة في السجن إذا ما تم إثبات التهم الموجهة إليه» في هذه الجرائم التي اعتبرها عمدة المنطقة «شيئا مخيفا بالنسبة إلى تلك الحيوانات الأليفة». إن هذا الخبر يبين لنا حقيقة لا يمكننا أن نعثر عليها في أخبار التلفزيون، وهي أن القطط عند الأمريكيين (والحيوانات عموما) أهم من بني البشر، وخاصة إذا كانوا عربا أو مسلمين يعيشون في العراق أو السودان أو أفغانستان وباكستان وما شابه ذلك؛ وللتأكد من ذلك تكفي مراجعة الأحكام اللطيفة والمضحكة التي أصدرتها محاكمهم على جرائم الحق العام (وليس جرائم الحرب) التي ارتكبها جنودهم في العراق، ومقارنتها بالأحكام التي ستصدر على المراهق قاتل القطط والتي لن يفلت فيها من السجن المؤبد، وربما طالب الادعاء العام فيها بعقوبة الإعدام! يضاف إلى ذلك أن الخبر يفسر لنا جذور العنف والهمجية التي أبان عنها هؤلاء الجنود في سجن أبوغريب، مثلا، حيث يظهر أنهم يبدؤون في مراهقتهم بتداريب أولية على الحيوانات الأليفة قبل أن ينتقلوا فيما بعد إلى «الحيوانات غير الأليفة»، التي يبدو أنه يدخل ضمنها الهنود الحمر وسكان الهند الصينية والعرب والمسلمون في الآونة الأخيرة. وفي السياق ذاته، نشرت جريدة يومية حوارا هاما مع مطرب مصري شاب من أولئك الذين تعوّدت القناة الثانية (المسماة عند أهل الأرض «دوزيم») على دعوتهم لتأثيث «سهراتها معاك الليلة»، قال فيه، ردا على اتهامه بكونه عرقل تصوير السهرة التي أحضر لها خصيصا من بلده، إن القناة هي المسؤولة عن العرقلة لأنها لم تكن تتوفر على «جيل» خاص بالشعر اعتاد على استعماله ورفض تعويضه بآخر لأنه سيؤثر على شعره، ورفض الشروع في الغناء قبل أن يقتني له أصحاب «السهرة» من السوق «الجيل» الذي يستخدمه (ربما لأن هذا يدخل ضمن شروط التعاقد معهم)، وهو ما قاموا به صاغرين في نهاية المطاف. إن هذا الحوار «التاريخي» يكشف لنا عن جملة من الحقائق الدامغة، على رأسها أن أصوات المغنين المصريين الجدد لا يعود الفضل فيها إلى شربهم، مثل أسلافهم، من ماء النيل؛ وإنما يرجع إلى استخدامهم ل»منشّط» خاص بالغناء على شكل «جيل» خاص بالشعر، بمجرد وضعه على فروة الرأس يتخلل مسامها وينزل إلى الدماغ فيشرع المغني الجديد في التقافز وتشرع الأصوات في الخروج من حلقه «بدون هواه»، لا يتوقف إلا إذا حضرت شاحنات الوقاية المدنية وأطلقت عليه خراطيم مياهها أو حملته مباشرة إلى المطار. وهي حقائق لا يمكن العثور عليها مطلقا في نشرات الأخبار التلفزيونية، مما يحتم علينا اللجوء إلى الجرائد ل«توضيح الرؤية»، إذا كنا نرغب فعلا في التحوّل... إلى أمّة فاعلة في التاريخ!