في تاريخ كل بلد محطاتٌ فارقة يتكثف فيها التاريخ ويتهيأ لتحولات نوعية تظل تلقي، لأمد بعيد، بظلالها على جملة الأحداث، ولا تجدي كل محاولات تهميشها بله شطبها جملة. وليس من قبيل التبشير المجاني اعتبار الإعلان عن حركة الاتجاه الإسلامي (سلف النهضة) في 6 يونيو1981، الذي يحتفي به النهضويون التونسيون هذه الأيام، من هذا القبيل، فلقد ظلت جملة سياسات السلطة وحلفائها منذئذ محكومة أو موجهة على نحو آخر به، فهو، الحاضر الغائب، كابوس يطاردها وتطارده بكل أجهزتها بهدف اقتلاعه من الأذهان وتحييده في الواقع. وما إن تبدو وكأنها قد تخلصت منه حتى يطل برأسه في شكله المعتاد أو في أشكال أعتى، كما هو باد في السنوات الأخيرة من خلال الصحوة الجديدة العارمة. فما هي السياقات لولادة هذا الحدث وما آثاره؟ 1 - محليا: انطلقت أوائل السبعينيات دعوة إسلامية إحيائية لإعادة الوصل بين الدين والحياة الحديثة التي صاغها عهد الاستقلال على أنقاض الإسلام أو بمعزل عنه أو توظيفا له. وجاء التحول من دعوة إحيائية عامة، لا تلامس السياسة إلا من بعيد، إلى حركة سياسية، في سياق تحولات كبرى في البلاد، كانت تعبيرا عن أزمة سلطة تشخصنت في زعيم البلاد الحبيب بورقيبة (المجاهد الأكبر، كما أطلق على نفسه). وكانت شيخوخته قد طالت والأمراض فتّت في عضده، فتمحورت الصراعات حول من سيخلفه. ورغم أن الطبيعة الاجتماعية كانت غالبة على الأحداث الكبرى التي عصفت بالبلاد منذ نهاية الستينيات، فإن مرض الزعيم والصراع على خلافته، مثلا، كان العامل الرئيس وراء الأحداث التي هزت الدولة، كانتفاضة يناير 1978 التي زلزلت الثقة في النموذج التنموي السائد وفي زعامته وما يتصل به من فكر وقيم، وهو ما أدى إلى تداعيات أخرى منها اندلاع العنف في قفصة في يناير 1980 على يد مجموعة من شباب تونس المهاجرين تلقوا الدعم من جارتي البلد. ورغم أن وزنهم لم يكن يمثل تهديدا حقيقيا للدولة، فإنها بسبب ما تعيشه من شبه فراغ في الزعامة استبد بها الهلع إلى درجة استنجادها بالجيش الفرنسي والمغربي، تنفيذا لبند غير مكتوب في وثيقة الاستقلال، بينما المتسللون أفراد معدودون بأسلحة خفيفة. وفي أجواء من الاضطراب والحيرة وكمخرج من حالة الانسداد، طرح الوزير الأول الجديد السيد محمد مزالي مشروعا للإصلاح السياسي تنفيسا للاحتقان، عن طريق السماح بتعددية سياسية محدودة، عبر عنها رئيس الدولة في مؤتمر حزبه في التاسع من أبريل 1981 «لا يمانع من تأسيس جمعيات سياسية». 2 - قد هيأت لهذا التطور سوابق سياسية وإعلامية وفكرية في البلاد ضغطت من أجل حصوله رغم أن ولادته كانت قيصرية، سفحت فيها دماء غير قليلة. ومن تلك السوابق ما كان قد حصل منذ بدايات السبعينيات من انشقاق داخل الحزب الحاكم قاده عدد من زعاماته المهمة رفضت انفراد «المجاهد الأكبر» المطلق بالسلطة، وعلى رأسها السيد أحمد المستيري. ولم يلبث هؤلاء أن أسسوا النواة الأولى للغراس الديمقراطي في البلاد، فأسسوا الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وجريدة الرأي ثم حركة الديمقراطيين الاشتراكيين. ولم تأت نهايات السبعينيات حتى كانت بالبلاد قاعدة لمؤسسات مجتمع مدني: جمعيات وأحزاب وصحف، بل مضى الأمر أبعد من ذلك، تطويرا لعلاقات تنسيق بين جماعات المعارضة بتوجهاتها المختلفة: ليبراليين واشتراكيين وشيوعيين وإسلاميين. حتى إن الحركة الإسلامية كانت تنشر، في نهايات السبعينيات، بياناتها في جريدة الرأي دون اسم عدا توقيع شيخيها مورو والغنوشي، مما حمل صاحب الجريدة السيد حسيب بن عمار رحمه الله، ضمن تصنيفه للبيانات، على أن يطلق اسم الاتجاه الإسلامي على بياناتنا، فارتضيناه. وإنه لمن الإنصاف اعتبار السيد أحمد المستيري أبا شرعيا للمشروع الديمقراطي المجهض في تونس الذي تتلمذ عليه الكثيرون، منهم الجيل الأول من أبناء الحركة الإسلامية الذين ردوا بعض جميل الأستاذ المستيري، فاستجابوا لندائه لهم وهم في ردهات المحاكم صائفة1981 لدعمه في معركته الانتخابية، فأوعزوا لقواعدهم بذلك، ففعلوا، فتحقق له فوز باهر، لولا عودة حليمة إلى عادتها القديمة في التزييف، شاهدة على نفسها بالفشل في أول اختبار. 3 - إن كل حديث في تونس عن بدايات الانفتاح الديمقراطي، التي طالما تعرضت ولا تزال للإجهاض، ما ينبغي أن يقلل من أهمية دور منظمة الشغيلة التي ارتبطت، منذ نشأتها، بالأحداث الكبرى في البلاد، فاعلا أساسيا فيها، إيجابا أو سلبا، فقد كانت حاضرة في الأحداث الفاصلة. وحيثما ما مالت حسمت. كان دورها مشهودا في بلورة وتعميق فكرة الاستقلال وربطها بالنضال الاجتماعي. وفي المعركة داخل الحركة الوطنية بين جماعة الديوان السياسي (حزب بورقيبة) وجماعة اللجنة التنفيذية (حزب الثعالبي)، مالت مع الأولى فرجحت كفتها وهمشت الأخرى. وفي المعركة بين ابن يوسف وبورقيبة انحازت إلى الأخير، فسلمته البلاد. وفي سياق معركتها لانتزاع استقلالها من براثنه خلال السبعينيات، التقط المجتمع بعض أنفاسه فنشأت نوى لحياة إعلامية وسياسية وجمعياتية، وأمكن للجامعة أن تحصل على قدر كبير من استقلالها فتخرّج أجيالا مسيسة تسهم في الحد من طغيان الدولة. «غير أن اتحاد الشغل في خضم معركته مع السلطة في نهاية السبعينيات -وكان زعيمه التاريخي المرحوم الحبيب عاشور في غياهب السجون- استطاعت السلطة أن تنسج مع قيادته اليسارية خيوط تحالف لمواجهة العدو الجديد (الإسلاميين)، أخذت حراب السلطة تتجه نحوه، فتشكل زواج شاذ بالإعلان عن جبهة انتخابية بينهما، بينما كانت الاعتقالات والمحاكمات في صفوف الإسلاميين على أشدها. وكان ذلك بداية لتحالف قطاع من اليسار ضد الحركة الإسلامية وضد الديمقراطية، أسهم ولا يزال في إجهاضها رغم ما حصل من تطور إيجابي من خلال ولادة حركة 18 أكتوبر في السنوات الأخيرة، فرزا بين يسار مناضل ويسار انتهازي، ظاهرة موجودة في كل التيارات للأسف. وما استطاعت منظمة الشغيلة أن تنهض من تلك الوهدة، فمهما أمعنت السلطة في القمع ومصادرة الحريات ونهب حقوق الشغالين، أمعنت المنظمة في التذيل رغم سخط وتململ قواعدها، بذريعة مقاومة الأصولية، وما من أصولية في البلاد، بل في العالم طرا، أقسى وأنكى من أصولية نظام السوق الذي يطيح كل يوم بالملايين في لجج البطالة والفقر والحروب، ويوشك أن يدفع البلاد إلى المزيد من التأزم وحتى إلى هاوية الإفلاس والاضطرابات الاجتماعية العاتية وقد بدأت طلائعها. وهذا ما حمل قطاعات متزايدة من المواطنين على البحث عن مفر من الجوع ابتغاء لما به يتبلّغون، ولو بالارتماء في لجج البحار أو هروبا إلى البلاد المجاورة، وهو ما تكرر حصوله مع عشائر تونسية عبرت إلى الجوار الجزائري. والجدير بالملاحظة أن ضرب الحركة الإسلامية جاء عقب ضرب اتحاد الشغل سنة 1986 خطوة ضرورية لفتح الطريق أمام الخطة التي اعتمدتها الدولة أو اضطرت إليها 1986، خطة دمج تونس في البوتقة الرأسمالية، فكان لزاما تجريد الجسم الاجتماعي من أقوى أجهزة دفاعاته التي يمكن أن تتصدى لخطة الدمج، اتحاد الشغل والاتجاه الإسلامي. وافق هذا التطور الجاري في المجتمع توجها صوب تحول ديمقراطي، مع أزمة عميقة وحالة انسداد يعيشها النظام، مما دفعه إلى الإقدام على اتخاذ إجراءات تنفيسية، لم تمس من بنية الدولة التسلطية الشمولية المتمحورة حول زعيمها وحزبها. توافق ذلك مع وضع داخلي تمر به «الجماعة الإسلامية» متمثلا في انكشاف تنظيمها لأول مرة لدى أجهزة الأمن بما لم يبق معه مبرر لاستمرار الإسرار به وعدم الإعلان عنه للناس سبيلا إلى تأمينه في الحضن الشعبي، لاسيما والدولة قد فتحت الطريق إلى ذلك، فتمت بلورة مشروع للإعلان عن الحركة وطرحه للحوار مع صفها. وخلال شهرين أمكن إجراء استفتاء عليه، فحصل على أكثر من ثلثي الأصوات، فانعقد مؤتمر للحركة أقر الإقدام على هذا التحول من جماعة دعوية إلى حركة شاملة ستتطور إلى حزب سياسي بمرجعية إسلامية في نهاية الثمانينيات، تاركة لمجلس الشورى وضع التفاصيل.