لم يكن لشاعر قبل أدونيس حجم الظاهرة. هو بالتأكيد «مفردٌ بصيغة جمعٍ»، ضمَّ في كيان واحد: الشاعر، الباحث، المفكر، الناقد، المترجم والفنان. تعدد يصدر بالأحرى عن حاجة ثقافية، لشاعر ينهض بأدوار النهضوي، الفاتح لدروب الحداثة في القول الشعري، ولمنعرجات النقد العقلاني في ثقافة عربية مشدودة إلى الماضي، بأكثر من حبل من حبال التقليد. منذ البداية، كان على أدونيس، في تحويل تام لمسار الأسطورة الفينيقية، التضحية باسمه الشخصي، لأجل مجابهة الخنزير البري، ممثلا في التقليد. من هنا جاء اسم أدونيس، ليكثف، في شخصية الشاعر الشاب، الإيحاء بولادة إرادة قوة جديدة، تبدأ بتوسيع رقعة الزمن الثقافي، لتنفتح على ميثولوجيا الحضارات القديمة، ولا تنتهي بممارسة حفريات نقدية في الثقافة العربية الإسلامية، لفرز الإبداع واحتضان طاقته الدافعة، الباعثة على التحول. وبين التوسيع والحفريات، تمتد فاعلية إبداعية خلاقة، تحتد معها رغبة الشاعر، في تحرير الشعر والفكر والأدب من مفاهيمه الدائرة في محور زمن ثقافي مغلق، لا يفتأ يعود إلى نقطة مثالية تصل بين أطراف الدائرة. أدونيس انتقد زمن النهضة، فأعاد وصل مهمة الشاعر بالتأسيس. لذلك، بقدر ما يشط الخيال، في تجربته كشاعر، بقدر ما يتسلطن العقل في تجربته كمفكر. إنهما وجهان لقامة ثقافية، كثيرا ما تغنتْ بنشيد الرفض، واستعارت خطوات الريح، لتنجز قفزة التجاوز. إن أدونيس، في الواقع، لا يريد أن يبني فقط مدينة الشعر، التي يسكنها شعراء وفلاسفة أمثال طرفة بن العبد ورامبو، المتنبي وسان جون بيرس، وأبي نواس وبودلير، وأبي تمام وملارميه، والحلاج ونيتشه... بل يريد أن يبني أيضا مدينة الديمقراطية، التي تعيد الاعتبار للإنسان وتجعل منه نقطة انطلاق بناء الدولة والثقافة والحضارة. بين أدونيس الشاعر، الذي وقع أعمالا أساسية في الشعر العربي المعاصر، تنظيرا وممارسة نصية، وأدونيس المفكر، الذي استعاد راهنية المشروع النهضوي بخلفية نيتشوية، تفكيكية، دون أن تكون أحيانا بمنأى عن التلفيق، هناك أدونيس الشفوي، كثير الأسفار، الذي جاب كل قارات العالم، محاضرا في الطلبة والمثقفين، ومتحدثا إلى التلفزيونات والصحافيين، خاصة أولئك الذين يريدون استفتاءه في أحوال الثقافة العربية ومآلاتها، في زمن الأصولية، بعد أكثر من نصف قرن من الكتابة والتأمل بإزميل ناري. أدونيس الشفوي هذا هو الذي أصبح يحتل الآن كامل المشهد الثقافي، فيما تراجع دور نصوصه إلى مراكمة إصدرات شعرية تجد مترجمها، ولا تعثر غالبا على قارئها، بحكم اتجاه الثقافة الإعلامية السائدة، إلى التنقيب في النوايا وتحريض التصريحات لصنع ثقافة الشائعة والفضيحة والتكفير. إنها آلة إعلامية ضخمة، أصبح الآن الشاعر وقودا لها. بل إنها خنزير بري آخر، يريد حياة أدونيس الرمزية، هذه المرة، فيجرده من امتياز الشاعر المؤسس، ويحوله إلى مجرد متحدث مشهور يُدلي بتصريحات، غالبا ما تغطي على مُنجز نصي، لم يَعد يثير شهية النقد. توقف صوت النقد وعلا صوت الدعاية، محرضا إما بخلفية القتل أو التعميد. أدونيس يتحدث إلى آلة أكبر منه، لكنه لا يملك إلا أن يشاهد صورته، وهي تتحول إلى فسيفساء من الآراء المتضاربة، التي تتوزعها وسائل الإعلام بتلذذ يجمع بين كل العقد الثقافية (السادية، المازوشية، والأوديبية...). آخر خرجة لأدونيس الشفوي كانت بكردستان العراق. المكان والزمان وتصريحات الشاعر، جميعُُها عناصر تضافرتْ، لتصنع زوبعة جديدة في «فنجان» الإعلام الثقافي العربي. وكانت مناسبة أيضا لتناسل الخطابات، مُنطوية على رغبة في إصابة العقل في مقتل. قذائف التشهير والصلب أصبحت مجرد نيران صديقة تتبادلها الأطراف، لتغذي غرائز قبلية متحدرة من أبعاد سحيقة في الذات. النتيجة الآن: أدونيس يغفو «ثقافيا»، ويحيا إعلاميا، متهيئا، لدورة عالمية جديدة من المجد وأحلام اليقظة، ربما تحمله، وهذه رغبتي، إلى جائزة نوبل. حينها، يستيقظ شعر أدونيس، وربما يعيش مغامرة آخر القرن.