كثيرا ما راودتني فكرة تأليف كتاب من مائة صفحة عنوانه «كيف تصبح مليونيرا في المغرب في خمسة أيام وبدون معلم». فالمغرب هو إحدى الدول التي يستطيع المرء فيها أن يتحول في ظرف وجيز من مجرد مواطن «خانز» إلى مواطن «خانز فلوس». كثيرون أنجزوا هذا التحول «النوعي» بفضل تطبيق نظرية «الحاجة أم الاختراع». وبما أنهم كانوا محتاجين إلى مراكمة الثروات فقد اخترعوا الطرق التي تؤدي إليها. سأعطيكم أمثلة بسيطة لكي تفهموا كيف يشتغل هؤلاء الأثرياء الجدد دون أن يتركوا أثرا يدل على خطواتهم. أتذكر أنه في مدينتي الصغيرة، ابن سليمان، التي سماها الحسن الثاني المدينة الخضراء، أمر عامل الإقليم بالشروع في تزيين كل المنازل التي سيتم بناؤها بالقرمود. هكذا سيصبح لمنظر المدينة شكل أوربي يشبه كثيرا مدينة إفران، مع فارق بسيط هو أن إفران يسقط فيها الثلج وتحتاج منازلها إلى سقوف «قرمودية»، بينما في مدينة ابن سليمان «طايح عليها البق» ولا يسقط شيء آخر غير «التبروري» في فصل الشتاء ليفسح المجال أمام أشهر طويلة من «الحرنة». ولذلك يسميها أهلها «الحفرة» سخرية ربما من لقب المدينة السياحية الذي سوقه البصري ليمنع إنشاء المصانع فيها و«يهربها» جميعها إلى سطات ونواحيها، تاركا أبناء «المدينة الخضراء» عرضة للبطالة. اليوم وبعد ذهاب الحسن الثاني والبصري إلى دار الحق، فهمنا من المستفيد من صفقة «القرمود البلدي». فلكي يدخل بعض أبناء الذوات عالم الاستثمار، كان آباؤهم يصارعون لكي يتدبروا لهم الحصول على صفقات بشكل حصري لإنتاج المواد الأولية للبضاعة التي سيتم فرضها في السوق على المواطنين. ولعل الجميع يتذكر الحملة القوية التي خاضتها مصالح الداخلية على عهد البصري ضد راكبي الدراجات النارية الذين لا يضعون قبعات. فقد غلف البصري حملته بأكذوبة «السلامة من حوادث السير»، وجند رجال أمنه في الطرقات وسيارات «الديباناج» لجمع نصف دراجات الدارالبيضاء بسبب عدم وضع أصحابها للخوذة. والنتيجة أن الحملة آتت «أكلها»، وأصبح جميع مستعملي الدراجات تقريبا يضعون الخوذة، وهذا شيء حضاري طبعا، لولا أن شركة تصنيع الخوذات الواقية التي وافقت عليها اللجنة الوطنية للوقاية من حوادث السير، كانت في ملكية أحد أبناء السليماني الذي ليس سوى أحد أصهار البصري، والذي لازال يقضي، بسبب هذه «الصهورية» عقوبته في السجن بتهمة تبديد أموال عمومية. وإلى حدود الأمس، لازال الجميع يتذكر كيف اندلعت عاصفة من الانتقادات في وجه أحد الوزراء السابقين بعدما كشف عضو في مجلس المدينةبالدارالبيضاء أن السبب في وضع المئات من تلك الهضاب «الزفتية» المسماة «ظهور الحمير» في شوارع وأزقة الدارالبيضاء هو أن الشركة التي «فازت» بالصفقة لم تكن سوى فرع لشركة كبرى يديره ابن أحد الوزراء السابقين. وهكذا أصبح سكان الدارالبيضاء يعانون مع ظهور الحمير هذه التي تخرب عجلات ونوابض سياراتهم يوميا. والمستفيد الأكبر من هذه الظهور هو الشركة التي «تطلص» زفتها مقابل ثمانية آلاف درهم لكل «ظهر حمار». «هوا الحمار براسو وموحالش يوصل الثمن ديالو 8000 درهم». كل هذه «الحيالات» تبقى هينة مقارنة ب«حيالات» أخرى أخطر يمارسها بعض السماسرة لصالح مسؤولين منتخبين ورسميين وحكوميين كبار، يجنون من روائها الأموال الطائلة بين عشية وضحاها. والوصفة التي يستعملها هؤلاء السماسرة سهلة للغاية، فهم يذهبون عند صاحب الأرض التي يوجد فوقها «الكاريان» ويقنعونه بأنهم عثروا له على مقاول مغفل يريد أن يشتري منه الأرض التي يحتلها هؤلاء السكان بدون حق. وغالبا ما يكون الثمن هو 20 درهما للمتر. وبحكم تقعد مسطرة إخلاء السكان من الكاريان وبعده عن المدار الحضري فإن صاحب الأرض يقبل بالعرض ويبيع، معتقدا أنه «ضربها للعين العورا». الذين يرسلون السماسرة لمفاوضة أصحاب أراضي «الكاريانات» على بيعها، يعرفون مسبقا أن تلك «الكاريانات» سيتم إدخالها ضمن الحملة المقبلة لمكافحة مدن الصفيح. وهنا تبدأ مفاوضات أخرى مع سكان الكاريان لكي يشتروا بقعهم لأن الدولة ستعطيهم الحق في البناء، تماشيا مع سياسة الحكومة الرامية إلى إلخ إلخ... وعوض 20 درهما للمتر التي اشترى بها المقاول المغفل الأرض من مالكها الأصلي، يشرع في تفصيلها بسبعة آلاف درهم للمتر المربع فما فوق. أما الطريقة المثلى لتحويل مقاول مبتدئ ومفلس إلى مقاول ثري في يومين فسهلة للغاية كذلك، إذ يكفي أن يشتري أحدهم أرضا فلاحية جنب مدينة عملاقة تتوسع باستمرار كالدارالبيضاء، يومين أو ثلاثة قبل إدخالها إلى المجال الحضري. هكذا تتحول الأرض الفلاحية التي لا يتعدى ثمنها بضعة دراهم للمتر المربع إلى أرض حضرية صالحة لبناء تجزئات سكنية تباع أمتارها بميزان الذهب. ولكي يفهم الواحد منا كيف يخترع هؤلاء السماسرة «الحاجة» التي بفضلها يجمعون الثروات، يكفي فقط الرجوع إلى أرشيف السينما العالمية الصامتة، والتفرج على فيلم شارلي شابلن الذي يلعب فيه دور بائع زجاج لا أحد يريد أن يشتري منه بضاعته. فما كان منه إلا أن «سخر» أحد أبنائه وكلفه بتحطيم نوافذ واجهات المقاهي والبنوك. وهكذا جاء أصحاب هذه الشركات رغما عن أنوفهم عند شارلي شابلن لكي يشتروا منه الزجاج لإصلاح واجهات محلاتهم. لكن سماسرتنا أكثر دهاء من شارلي شابلن، فهم قادرون على إقناع سكان الإسكيمو باقتناء الثلج. وما جرى في الدارالبيضاء، طيلة عقود من تدبير شؤون المدينة، يكشف أن بعض هؤلاء لديه قدرة سحرية على اختراع «الحاجة» إلى أشياء لا حاجة بالسكان إليها. فعبد المغيث السليماني عندما كان رئيسا للمجموعة الحضرية اخترع ظاهرة اللجوء إلى مكاتب الدراسات الأجنبية من أجل وضع خطة لحل أزمة النقل داخل الدارالبيضاء. وكان ثمن الدراسة التي أنجزها مكتب للدراسات ولم تر النور حوالي 300 مليون سنتيم. وعندما أصبح العباسي على رأس المجموعة الحضرية (دابا راه فالأصالة والمعاصرة) كلف مكتبا آخر للدراسات بإنجاز الدراسة نفسها بالمبلغ نفسه، لكي يتم وضعها في الرفوف. واليوم على عهد ساجد يتم تكليف مكتب ثالث للدراسات بإنجاز الدراسة نفسها، لكن هذه المرة بخمسمائة مليون، للاحتفاظ بها في الأرشيف إلى جانب الدراسات السابقة. ولعل أسهل طريقة وأشهرها اليوم في المغرب لصرف المال العام، هي تكليف مكاتب بإعداد دراسات حول واحدة من إشكاليات الشأن العام. وهناك وزارات كوزارتي التجهيز والسياحة حطمتا الرقم القياسي في عدد العقود التي أبرمتاها مع مكاتب الدراسات المغربية والأجنبية. مع العلم بأن هاتين الوزارتين لديهما أطر ومهندسون أكفاء يستطيعون القيام بأحسن ما تقوم به مكاتب الدراسات. والأدهى من ذلك أن بعض المؤسسات والوزارات يوجد على رأسها وزراء تيكنوقراطيون تم اختيارهم لهذا الغرض بالضبط، ومع ذلك يلجؤون إلى مكاتب الدراسات. عندما يلجأ وزير حزبي طارئ على الحكومة إلى مكتب للدراسات يمكن أن نفهم ذلك ونحسبه على قلة تجربته الحكومية، أما أن يلجأ الوزير التيكنوقراطي إلى هذه المكاتب «هيا ما تيكنوقراط ما والو». وهؤلاء السماسرة ليست لديهم موهبة فقط في إرسال أبنائهم لتحطيم واجهات المحلات لبيع زجاجهم، كما فعل شارلي شابلن في الفيلم، وإنما لديهم أيضا موهبة «ألباتشينو» في تجسيد أدوار الآباء الروحيين للمافيا. وهناك طريقتان لتصفية كل من يقف في وجه هذه الآلة الجهنمية للسماسرة. الطريقة الأولى يجسدها بشكل واضح مثال فوزية أمنصار التي كان اسمها يطير النوم من أعين المنعشين العقاريين والسماسرة في الدارالبيضاء، بسبب تشددها في تطبيق قوانين التعمير ومنح التراخيص. ولذلك وجدت بين ألد خصومها من يدافع عنها عند أصحاب القرار لكي تترقى من منصبها كمديرة عامة للوكالة الحضرية بالدارالبيضاء إلى منصب عامل. بعد أن غلفوا دفاعهم عن عدوتهم اللدودة بكونها تستحق أن تكون أول امرأة عامل في المغرب، بينما الحقيقة هي أنهم كانوا فقط يتمنون زوالها من الوكالة الحضرية، وبالتالي زوال «الزكير». والمثال الثاني أكثر درامية، ويجسده رئيس الأمن السابق بسلا جلماد، الذي تم التخلص منه بسبب وضعه للعصا في عجلة «الآلة الجهنمية» التي تطحن عائدات الخمور والمخدرات والدعارة وترسلها إلى ما وراء النهر. وللتخلص من رئيس الأمن المزعج لم تكن هناك طريقة أحسن من «شرائها» له خلال الزيارة الملكية. وبالضبط عندما وقع ارتباك في سير الموكب الملكي في منطقة «بو القنادل» بسلا. وعندما سأل حراس الملك عن المسؤول عن هذا الارتباك وجدوا من يهمس في آذانهم اسم الرئيس المطلوبة رأسه. فصدر أمر بإرساله إلى بيته، حيث يوجد إلى اليوم رغم صدور عفو ملكي في حقه. غدا نتابع كتابة فصل جديد من كتاب «كيف تصبح مليونيرا في المغرب في خمسة أيام وبدون معلم».