على مدى سنوات طويلة كان الخطأ الطبي «قضاء وقدرا»، والكثير من المغاربة توفوا داخل غرف العمليات، أو في انتظار تلقي العلاج، ولم يكن موتهم يثير كثيرا من الأسئلة حتى وإن كانوا يعانون من أمراض لا تقود إلى الموت، ومنهم من بقيت الأخطاء الطبية عالقة في جسده طوال حياته، فالكثيرون يحملون معهم تشوهات وإعاقات تلازمهم طيلة حياتهم بسبب خطأ في التقدير أو إهمال من طرف طبيب، ولم نكن نسمع عن هؤلاء أنهم تابعوا طبيبا أمام القضاء، أو اتهموا مستشفى بالتسبب في أعطابهم، لسبب بسيط، هو أن ثقافة التطبيب كانت ثانوية وتكميلية، وعندما يصل الفرد إلى المستشفى فغالبا ما يكون قد غالبه المرض، كما أن الطبيب كان يحظى بمكانة اعتبارية يصعب معها مواجهته، أيضا الكثيرون من ضحايا أخطاء أرباب الوزرة البيضاء ظلوا يعانون في الظل ولم تصل معاناتهم وشكواهم إلى أحد، أما اليوم فوسائل الاتصال والمواقع الاجتماعية وسهولة انتشار الخبر، جعلت الضحايا يخرجون إلى العلن، ولا يترددون في اللجوء إلى القضاء لإنصافهم. في الأسبوع الثاني من شهر يناير الجاري فجرت أسرة بمدينة المحمدية فصيحة من العيار الثقيل عندما اتهمت طبيبا باستعمال «ملاعق» في توليد امرأة، عملية أدت إلى وفاة الجنين متأثرا بجروح وإصابة الأم بمضاعفات صحية خطيرة نتيجة الظروف غير الصحية التي مرت منها عملية التوليد، وبعدها بأيام قليلة خرجت أسرة ثانية لتتهم القسم نفسه بالمستشفى ذاته بالتسبب لابنتها حديثة الولادة بالإصابة ببكتيريا خطيرة نتيجة إهمال الحامل وتركها لأزيد من 17 ساعة دون عناية، قبل أن تنقل العائلة ابنتها إلى مستشفى بالدارالبيضاء في الخامسة صباحا من اليوم الموالي لتضع جنينها بشكل طبيعي، عكس ما أخبرت به الأسرة من طرف الأطباء بمستشفى مولاي عبد الله بكون حالة ابنتهم حرجة وتستدعي تدخلا طبيا عاجلا لا يمكنهم إجراءه لعدم توفر المعدات الضرورية؟ ولم تكن الحالتان السالفتان لوحدهما دليل «إدانة» للمشرفين على قسم الولادة بالمستشفى الوحيد بإقليم المحمدية، فمجرد أن نشرت «المساء» قضية الأسرتين ظهر «ضحايا» آخرون، حوامل تركن للبرد والعراء بعد أن رفضت إدارة المستشفى استقبالهن، وحالات أخرى اكتفى مسؤولو القسم بإرسالها إلى مستشفيات الدارالبيضاء دون أسباب مقنعة. ضحايا الأخطاء الطبية يشبهون إلى حد بعيد ضحايا الحروب، وهم أيضا ضحايا لحروب من نوع آخر، حروب تدور وقائعها داخل أقسام مستشفيات المملكة، وتخلف موتى ومعطوبين ومجانين أيضا، والفرق الوحيد بين الحرب وبين الأخطاء الطبية، هو أن الأولى تستخدم فيها أسلحة والمشاركون فيها يفترضون سيناريو الموت كواحد من السيناريوهات الممكنة جدا، بينما في الحالة الثانية، الضحايا يفقدون حياتهم أو يصابون بعاهات مستديمة وهم يبحثون عن الحياة، و«الجلاد» ليس إلا طبيبا سلمت له حياة المواطنين، وسلامتهم الجسدية، لكن بعض الأطباء تحكمهم أولويات أخرى غير تلك التي أدوا من أجلها قسم أبقراط، ويصبح الربح هاجسهم الأول. في هذا الملف تنقل لكم «المساء» قصصا لضحايا الأخطاء الطبية بالمغرب، وآراء مهتمين ومتتبعين، لتجعل الصورة أوضح حول قضية الأخطاء الطبية. قصص الضحايا لا تنتهي، والحالات التي عاشت تجربة الخطأ الطبي، أشخاص فقدوا أقاربهم داخل غرف العمليات، وآخرون شاهدوا تفاصيل موت بطيء بعد أن أخطأ طبيب في تقدير حالتهم الصحية، أو إهمالهم، ومنهم من يعيش حاملا معه تشوهات وأعطابا ستلازمه مدى الحياة، ولكل واحد من هؤلاء بوح لا ينتهي، «المساء» تنقل لكم بعض تجارب ضحايا الأخطاء الطبية. حكيم.. عملية بسيطة تنتهي ب«سرقة» كلية قصص ضحايا فقدوا أقاربهم داخل غرف العمليات وآخرون شاهدوا تفاصيل موت بطيء «هذه جريمة وليست خطأ طبيا» هكذا يبدأ «حكيم عناية» رواية قصة فقدانه لإحدى كليتيه، ويضيف «دخلت المستشفى لأجري عملية بسيطة «فتق» لكني اكتشفت بعد مدة أن الأطباء الذين أجروا العملية قد سرقوا كليتي»، لم يكن حكيم يتوقع مطلقا أن طبيبا يمكنه أن يخطف كلية مريض، لكنه اكتشف أن الأمر ممكن عندما تدهورت حالته الصحية بعد نحو عام من إجرائه عملية جراحية بمستشفى الحسن الثاني بأكادير، حيث بدأ الشعور بالإرهاق يداهمه ويشعر بجسده فاشلا مع آلام في الجنب، حينها قرر زيارة طبيب لمعرفة السبب في الآلام التي يعانيها، وبعد إجراء فحوصات بأشعة الراديو كانت المفاجأة، الطبيب سيخبره أن الكلية التي فقدها هي السبب في معاناته، لم يستوعب حكيم ما أخبره به الطبيب قبل أن يؤكد له الأخير أنه يتوفر على كلية واحدة ولا وجود للكلية الثانية، ليبدأ فصل آخر من المعاناة، كيف يمكن لطبيب أن يقتلع كلية مريض؟ وهل كان الأمر خطأ أم مقصودا؟ أسئلة سيجيب عنها أكثر من 12 تقريرا طبيا يؤكد أن حكيم فقد كليته بعملية جراحية، والعملية الوحيدة التي أجراها كانت من أجل فتق، إذن الطبيب الذي أجرى العملية هو الوحيد الذي وصل إلى أحشاء الضحية. التقارير الطبية التي منحها أكثر من طبيب للضحية تؤكد أن الكلية اليسرى غير موجودة، وأنها استؤصلت تماما، لكن تقرير الخبرة الطبية الذي أنجزته لجنة خاصة كلفتها وزارة الصحة لهذا الغرض يسير في اتجاه مغاير، حيث يورد التقرير أن السبب في العجز الكلوي الذي يعانيه حكيم هو ضعف في الكلية اليسرى، ويضيف التقرير أن الكلية المذكورة ضعيفة وبحجم صغير جدا، ولا يذكر التقرير إطلاقا أن الكلية غير موجودة، والمثير في التقارير الكثيرة التي يتوفر عليها الضحية، هي أن بعض الأطباء أعضاء اللجنة المذكورة منحو للمعني شواهد معاينة تؤكد أن الكلية غير موجودة وأنها استؤصلت، أمر فسره حكيم بكون أعضاء اللجنة لم يجروا أي فحص سريري دقيق، وأن اللجنة اكتفت بمعاينته بالعين المجردة في منزله، بالمقابل أظهرت نتائج الفحص بجهاز «الإيكوغرافي» أجريت بتاريخ 7 أبريل 2014 لدى طبيب مختص، أن الكلية اليسرى غير موجودة، وهي النتيجة نفسها التي أكدتها فحوصات أجراها المعني لدى طبيب مختص في أمراض الكلي بتاريخ 10 أبريل من السنة نفسها. الخطأ الطبي أو ما وصفه حكيم بجريمة سرقة كليته، بات أمرا مؤكدا على ضوء نتائج الفحوصات الطبية التي أجراها، ولم يبقى أمامه إلا اللجوء إلى القضاء من أجل إنصافه، حيث وضع شكاية لدى الوكيل العام للملك لدى استئنافية أكادير غير أن مصيرها كان الحفظ، وقال الضحية إن الشكاية لم تبارح مكتب الوكيل ولم يفتح أي تحقيق قضائي في الملف إلى حدود اليوم رغم توافر كل عناصر «الجرم»، مضيفا أنه طالب مرارا بإجراء خبرة طبية إلا أن طلبه لم يلقى أي تفاعل من طرف المصالح القضائية، ليلجأ بعدها إلى مراسلة كل من وزيري العدل والصحة، غير أن مطالبه لقيت المصير نفسه. تشوه دائم بسبب عملية تجميلية بعد تردده ومحاولات إقناع زوجته قرر مصطفى الصغري اللجوء إلى طبيب جراح لتقويم خلل خلقي لدى طفله الذي ولد بتشوه على مستوى جهازه التناسلي «القضيب»، حمل طفله إلى طبيب مختص وعند معاينته من طرف الأخير أخبره أن ابنه يحتاج لتدخل جراحي بسيط لتعديل الخلل الذي يعانيه، وفعلا وافق الأب على إجراء العملية بعد أن أخبره الطبيب بأن نجاحها مضمون حسب قوله، حيث أجريت العملية وقام الطبيب بإدخال أنبوب في قضيب الطفل ليساعده مؤقتا على التبول بشكل طبيعي، غير أنه فوجئ بعد يومين من العملية أن البول يخرج من جانب الأنبوب الذي زرعه الطبيب، حينها حمل طفله وعاد إلى الطبيب نفسه ليعرف إن كان الأمر عاديا، وأثناء المعاينة لاحظ مصطفى أن الطبيب في ورطة حين سأله «ماعرفتش واش نحيد ليه الخيط أو نخليه؟» أسئلة بدت غير منطقية من طبيب مشهور مختص في جراحة الأطفال، قبل أن يقرر الطبيب نزع الخيط والأنبوب، بعدها بثلاثة أيام يقول الأب بدأ قضيب الطفل يتمزق، وزاد التشوه ببروز فتحة واسعة أسفل عضوه، لتبدأ فصول معاناة جديدة. مصطفى الصغري الذي كادت أسرته أن تنهار بعد العملية، بسبب خلافات بينه وبين زوجته التي تحفظت على قرار إجراء عملية تجميل للعيب الخلقي الذي يعاني منه ابنهما، قرر اللجوء إلى القضاء ورفع دعوى قضائية ضد الطبيب المعني والمصحة التي يعمل بها، كل هذا حدث قبل سنتين (2013)، ورغم أن الضحية يتوفر على الإثباتات التي تؤكد تفاقم وضعية ابنه الصحية نتيجة التدخل الجراحي الذي أجراه الطبيب المعني، ونتائج الفحوصات الطبية التي تؤكد إصابة الطفل بتشوه متفاقم، إلا أن المحكمة رفضت الدعوى في المرة الأولى لعيب في الشكل، بعدها طلب منه محاميه أن يحضر تقريرا للخبرة الطبية يثبت العلاقة السببية بين العملية التي أجراها ابنه وبين الضرر الذي لحقه، وهو الأمر الذي وجد الأب صعوبة بالغة في تحقيقه، حيث قال ل«المساء» إن غالبية الأطباء الذين يعاينون ابنه يرفضون منحه تقريرا طبيا يثبت تسبب العملية السالفة في تفاقم التشوه الذي يعاني منه الطفل، مضيفا أن الأطباء يؤكدون له أن العملية الجراحية كانت سببا مباشرا في عجز طفله، لكنهم يرفضون تسليمه شهادة رسمية تؤكد الأمر. الإحساس بالغبن والضعف جعل مصطفى يفكر في التراجع عن مواصلة متابعة الطبيب، حيث قال إن «الطبيب يتمتع بشهرة واسعة وجاه وسلطة، بينما نحن أبناء الشعب نضيع في حقوقنا»، مضيفا أن ابنه يضيع أمام أعينه وهو عاجز عن أخذ حقه، رغم توفره على ملف طبي يتضمن كل مراحل الإعداد للعملية، وكل ما يثبت أن الطبيب المذكور أجرى العملية، وتسبب في الخطأ الطبي، إضافة إلى شهادة معاينة طبية من طرف طبيب ثان بالمصحة نفسها تؤكد إصابة طفله بنزيف حاد استدعى تدخلا طبيا عاجلا.
«الجلالة» تتحول إلى سرطان بعد 5 أشهر من الانتظار تمكن واكريم من إدخال شقيقه الذي يعاني من ضعف في البصر نتيجة إصابته ب«الجلالة»، إلى قسم العمليات بمستشفى 20 غشت بمدينة سلا، أجريت العملية الجراحية وغادر شقيقه المستشفى بعد أن طمأنه الأطباء بأن العملية ناجحة، بعدها بأيام قليلة أحس الضحية بآلام حادة بعينه، ليحمله شقيقه إلى المستشفى حيث عاينه الطبيب الذي أجرى العملية، فأخبره بأن الأمر عادي بعد الجراحة، حرر له لائحة بأدوية مسكنة وغادر المستشفى، غير أن الآلام تضاعفت، واستمرت على مدى سنة ظل معها واكريم في تنقل شبه دائم بين بيت العائلة والمستشفى، دون أن ينجح الأطباء في التخفيف من الألم الذي يزداد يوميا، وأمام إصرار واكريم قرر الطبيب المشرف إجراء عملية «أخبرني الطبيب بأن شقيقي في حاجة على تدخل جراحي ثان وأنه مستعد لإجرائه على نفقته الخاصة» يقول واكريم، أمر مثير أن يطلب طبيب إجراء عملية جراحية على نفقته الخاصة، هل هو حس إنساني؟ أم محاولة لتصحيح خطأ وقع فيه؟ مبادرة الطبيب ستثير فضول واكريم، حسب قوله، ليقرر عرض شقيقه على طبيب مختص بإحدى عيادات المدينة الخاصة، إلى حدود وصوله إلى قاعة انتظار العيادة لم يتوقع أبدا أن تكون هذه الزيارة بداية مشوار شقيقه نحو المعاناة والموت، لكن الطبيب بعد أن أجرى فحوصات دقيقة على العين الجريحة، باغث واكريم بنتيجة صادمة، العين مصابة بثقب أدى إلى التهابات حادة تحولت إلى سرطان مميت، بعد أن دمر السرطان خلايا العين وأتلف الشبكية، كان الخبر صاعقا، جراحة بسيطة تتحول إلى مرض خبيث يقود إلى الموت مباشرة، والسبب عدم تدخل الطبيب المشرف في الوقت المناسب لتصحيح الخطأ الذي ارتكبه، كان الموقف صعبا، هل سيواصل محاولاته لإعادة الحياة إلى شقيقه أم يسلم «بالقدر» ويتركه لمصيره؟ اختار واكريم المحاولة، وأول خطوة اتخذها كانت اللجوء إلى القضاء ورفع دعوى قضائية ضد الطبيب الذي أجرى الجراحة وعلى إدارة مستشفى 20 غشت، حينها عينت المحكمة خبيرا محلفا لإجراء خبرة طبية لحالة الضحية، للتأكد من وجود خطأ طبي من عدمه، وبناء على نتائج الخبرة والشواهد الطبية ونتائج المعاينات التي أجراها الضحية لدى أطباء مختصين، قررت المحكمة إصدار حكم يدين المستشفى بتعويض مالي بقيمة 15 مليون سنتيم، لكن الحكم ألغي نهائيا في مرحلة الاستئناف، وهو الذي اعتبره واكريم غير منصف «القضاء لم ينصفنا، يطلبون منا إثبات العلاقة السببية بين الخطأ والضرر الذي نتج عنه، بينما على المحكمة أن تعين خبيرا وتعتمد وسائل الإثبات التي نتوفر عليها» يقول واكريم، ليتجه إلى محكمة النقض كأمل أخير في إنصافه، لكن محكمة النقض نقضت الحكم وأبطلته لتعود القضية إلى نقطة الصفر بعد نحو خمس سنوات (2015) على وفاة الضحية عاودت أسرته رفع دعوى ثانية، لكن المحكمة رفضت الدعوى بدعوى التقادم، رغم توفر العائلة على نتائج التشريح الطبي الذي أجري على الجثة وأثبت أن سبب الوفاة سرطان في العين نتج عن الثقب الذي أصاب العين وأتلف الخلايا وشبكية العين. لم تنتهي الحكاية عند هذا الحد، يقول واكريم، حيث طلب منه إجراء خبرة ثانية، لدى طبيبة بعينها، «طلبوا مني أن أجري خبرة ثانية ودفعت مقابلها 1750 درهما»، لكن نتائج الخبرة كانت معاكسة تماما لنتائج الخبرة الأولى وللشواهد الطبية التي يتوفر عليها، حيث خلص التقرير إلى انعدام العلاقة السببية بين إصابة المريض بثقب أدى إلى سرطان بالعملية الجراحية، وقال واكريم إن الطبيبة التي أجرت الخبرة أخبرته أنها «ماقاداش على هاد الناس»، ليبقى الوضع معلقا في انتظار معجزة تنصف الضحية، يقول واكريم. القضاء الملاذ الأخير للضحايا ضحايا الأخطاء الطبية كثر، وبالرغم من غياب إحصائيات وأرقام دقيقة فإن الأمر المؤكد هو وجود الآلاف منهم، بعضهم قرر الصمت خوفا من «الشوهة» وآخرون يعتبرون الأمر قضاء وقدرا، بينما قرر الكثيرون فضح الجرائم التي ترتكب داخل غرف العمليات وأقسام الولادة، والتوجه إلى القضاء للقصاص من مرتكبي جرائم من نوع خاص، إلا أن القضاء لا يكون دائما منصفا، وغالبا ما تحول تعقيدات المساطر القضائية وتفاصيل الدعوى الغارقة في الشكليات، دون تحقيق العدالة المنشودة. القضاء عندما يفتحون ملفات النزاعات المتعلقة بهذا النوع من الجرائم، لا ينتصرون لنزعتهم العاطفية، بل يعتمدون على حيثيات قانونية وإثباتات مادية قاطعة، لذلك غالبا ما كان القضاء يذهب في اتجاه التشدد مع المدعين الذين يتهمون أطباء بارتكاب أخطاء تسببت في إصابتهم بمضاعفات صحية أو تشوهات أو الموت في بعض الحالات، وسبق لمحاكم المملكة أن قضت في نزاعات عديدة لصالح الأطباء بعد عجز الضحايا عن تقديم جملة الدلائل على وجود الخطأ الطبي والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر، ومن بين هذه الأحكام، رفض محكمة الاستئناف بطنجة سنة 1987 لدعوى تقدم بها مواطن ضد طبيب يتهمه بالتسبب له في عجز دائم بعد أن أجرى له عملية جراحية على إحدى رجليه (قرار عدد 681 بتاريخ 27-05-1987، ملف مدني عدد 8134/5 منشور بمجلة الندوة (هيئة المحامين بطنجة) عدد 4)، وجاء تعليل المحكمة على النحو التالي «يتعين تجسيد الخطأ المهني لهذا الأخير (الطبيب)، وإثباته بدلائل مقبولة يقع على عاتق المستأنف (المريض)»، حيث اعتبرت المحكمة أن ادعاء الضحية غير مقنع، ولا يمكن مؤاخذة الطبيب لمجرد إثبات وجود العجز (60%)، وبناء على عنصر المخاطرة، بل على المدعي أن يقدم أدلة كافية على وجود الخطأ، القرار كان صادما للضحية، لكنه شكل بداية لنقاش فقهي وقضائي حول الطرف الذي يجب عليه أن يثبت ما يدعيه، هل المريض الذي يصعب عليه إثبات الخطأ لأنه لا يملك آليات الإثبات، أم الطبيب الذي يفترض أنه مؤتمن على صحة المرضى، ويفترض أن يكون عارفا بنتائج تدخله؟ بعد الواقعة سيعرف القضاء تحولا نسبيا في موقفه من هذا النوع من القضايا، وسيخفف من تشدده تجاه المريض، حيث أصدرت محكمة الاستئناف بالبيضاء في ملف اتهام أسرة لطبيب توليد بارتكاب خطأ طبي تسبب في ضرر لابنتهم أثناء التوليد (ملف مدني عدد 2425/83)، أدانت فيه الطبيب المولد واعتبرت أنه قد «ارتكب خطأ فنيا عن بينة واختيار حين أقدم على توليد امرأة بطريقة عادية دون مراعاة ملفها الطبي الذي يشير إلى أنه لا يمكن توليدها إلا بإجراء عملية قيصرية»، كان الحكم الأخير بداية أمل للعديد من ضحايا الأخطاء الطبية، غير أن التعقيدات الكثيرة التي تتخلل مساطر التقاضي في مثل هذه النزاعات لا تتوقف عند إقناع القاضي، حيث يبقى تفصيل دقيق عائقا حقيقيا أمام إنصاف الضحايا، يتعلق الأمر بنتائج الخبرة الطبية التي يعتمدها القاضي بشكل أساسي في إصدار أحكامه، خبرة يجريها أطباء معينون من طرف وزارة الصحة، فيصبح الطبيب خصما وحكما. الجواب على الإشكال السالف يكمن في تكوين قضاة مختصين للبت في مثل هذه النزاعات المركبة، عبد العزيز أفتاتي البرلماني بمجلس النواب أكد ل«المساء» أن المشكل الرئيسي الذي يعترض مسار إنصاف ضحايا الأخطاء الطبية، يتعلق بالخبرة الطبية، مشيرا إلى أن اللجان المعينة لهذا الغرض فعلا تتلاعب في كثير من الحالات بالنتائج، وأكثر من هذا يتم اللجوء إلى إبطاء عملية البت في الملفات المعروضة على الخبرة حتى يصاب المشتكي بالإعياء واليأس ويتخلى عن مطالبته بإنصافه، وهنا يأتي دور وزارة الصحة التي يجب عليها أن تتابع مسار هذه الملفات، يقول أفتاتي، أمر يطرح إشكالا تقنيا يصعب على القاضي أن يضبطه، فالخبرة عملية تقنية صرفة وعملية إثبات الخطأ قد تتوقف على تفاصيل صغيرة تتخلل التدخل الطبي للطبيب مرتكب الخطأ، ما يفتح الباب أمام الأطباء المكلفين بإجرائها لتحريف مضمونها، وبالتالي التأثير على موقف القضاء، ما جعل مطلب تكوين أطباء مختصين في هذا النوع من القضايا أمرا ملحا بالنسبة للضحايا والجمعيات المدافعة عن حقوق المريض. مقاوم يقتله «البنج» أثناء عملية بتر القدم تبدأ جليلة غدان الحديث عن والدها الذي توفي داخل غرفة عمليات المستشفى العسكري بمكناس أثناء إجرائه عملية جراحية على إحدى قدميه قبل سنتين، بالتذكير بتاريخ والدها في المقاومة، «والدي قاوم الاستعمار وحمل السلاح وحكمت عليه فرنسا بالإعدام، وأمضى عقوبة سجنية لمدة سنتين بسجن الصويرة، لكن الموت سيأخذه داخل قسم العمليات بالمستشفى العسكري نتيجة خطأ طبي»، الضحية الذي كان يعجز عن تحريك إحدى قدميه نتيجة إصابته بالتهاب على مستوى المفاصل العليا (الورك)، كان قد أجرى عملية زرع معدن لمساعدته على الحركة، وقالت جليلة إن الطبيب الذي قام بعملية زرع المعدن الواقي أخبرهم بضرورة الإبقاء على المعدن الواقي وعدم نزعه نهائيا، بعدها أصيب الضحية بشلل على مستوى رجله، نتج عنه انسداد في شرايين الجهة الداخلية للركبة. كان الضحية يتعايش مع الشلل الذي أصابه بمساعدة أسرته، لكن الأسرة لم تفقد الأمل في علاج الوالد، فقررت عرضه على طبيب مختص بالمستشفى العسكري بالرباط، وبعد معاينته من طرف الأطباء تقرر إجراء عملية إزالة المعدن الواقي، أمر وافقت عليه الأسرة دون أن يخطر في بالها أن عبور بوابة غرفة العمليات سيقود الأب إلى الموت مباشرة، فالمقاوم الذي عرف بصلابته، بين أيدي آمنة، إنه المستشفى العسكري، لكن الخبر كان مفجعا عندما خرج الطبيب الجراح ليخبر العائلة أن المريض قد فارق الحياة داخل غرفة العمليات، حينها بدأت ابنته جليلة في البحث عن السبب الحقيقي لوفاة والدها، ليتبين بناء على الخبرة الطبية، أن سبب الوفاة هو عدم تحمل الضحية للتخدير والعملية معا. تقول جليلة إن طبيب التخدير بالمستشفى العسكري، وهو برتبة كولونيل/عقيد، لم يجر الفحوصات اللازمة لوالدها «لم يهيئوا الملف الخاص بإجراء العملية، ولم يجروا أية فحوصات على القلب خاصة وأن والدي يبلغ من العمر 85 سنة»، غياب ملف طبي متكامل وعدم إجراء الفحوصات الضرورية للتأكد من قدرة المريض على تحمل التخدير والجراحة، كانت سببا مباشرا في وفاة الضحية داخل غرفة العمليات، حسب تقرير الخبرة الطبية الذي اعتمدته المحكمة لإصدار حكم بالسجن النافذ لسنتين في حق الكولونيل/الطبيب، بتهمة مخالفة الأوامر العسكرية، لكنه استمر في مزاولة مهامه داخل المستشفى بعد إحالة ملف القضية على محكمة النقض، لكن مصير الملف بقي عالقا بمحكمة النقض تقول جليلة. عبد الرحيم فكاهي *: إثبات الخطأ الطبي يرجع إلى القواعد العامة للإثبات في ظل غياب تشريع خاص بحقوق المريض قال إن المريض هو الحلقة الأضعف في معادلة تدهور قطاع الصحة وهو من يدفع ثمن الاختلالات - في الآونة الأخيرة هناك اهتمام كبير بقطاع الصحة، وأصبحت مسألة اختلالات القطاع ذات أولوية بالنسبة للرأي العام مع بروز لافت للأخطاء الطبية، بحكم تجربتكم في مؤازرة ضحايا القطاع الصحي كيف تفسرون هذا الأمر؟ هناك شبه إجماع على وجود اختلالات كبيرة في المنظومة الصحية والطبية بالمغرب، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، وإن كانت الأضواء قد سلطت أكثر على القطاع العام، وهذه اختلالات بنيوية، تراكمت على مدى سنوات عديدة، وترجع إلى عوامل عديدة ومتشعبة، منها ما يتصل بالضعف المريع في الاعتمادات المالية المرصودة لقطاع الصحة، في الميزانية العامة، والتي لا تستجيب للحد الأدنى المحدد من طرف منظمة الصحة العالمية 6% من الميزانية العامة، ومن هذه العوامل أيضا ما يتصل بتدهور الممارسة الطبية في بلادنا، مهنيا وإنسانيا، وتفشي التهافت على الاغتناء، وضعف التكوين المهني، سيما التكوين السريري، وتدهور الحس الإنسان لدى بعض الأطباء. بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل حجب المعلومة عن المواطن والمريض، والضعف الكبير الذي تعرفه منظومة الرقابة، وتفشي الرشوة والمحسوبية، في المقابل لا بد أن أسجل جرأة وزير الصحة في عدم التستر على هذا الواقع واتخاذه عددا من التدابير الإصلاحية رغم الضغط الهائل الذي يتعرض له من طرف لوبيات قوية ومتعددة، لإبقاء الوضع على ما هو عليه، أيضا هناك أطباء يقومون بواجبهم على أكمل وجه. - هل يعني هذا أن الخلل الرئيسي يكمن في مهنيي القطاع أم أن دائرة المشكلة تتسع إلى مجالات أخرى قانونية وتقنية؟ المنظومة التشريعية تعرف اختلالات بدورها، فليس هناك تشريع خاص بحقوق المريض مثلما عليه الأمر في بعض التشريعات العربية أو الأوربية وخاصة التشريع الفرنسي، فالمسؤولية الطبية في بلادنا تنظمها نصوص عامة مثل قانون الالتزامات والعقود، والقانون الجنائي، والتشريع المغربي بقي مقتصرا على القواعد التقليدية في مجال المسؤولية الطبية المرتكزة على فعل وضرر، والعلاقة السببية بين الفعل والضرر. بالإضافة إلى ما سبق، هناك إشكاليات تتعلق بإثبات الخطأ الطبي، وتمكين المريض من ملفه الطبي، حيث يكون المريض ملزما بالإثبات اعتمادا على خبرة طبية، وهذا مشكل بدوره، حيث يرفض الكثير من الأطباء إجراء الخبرة الطبية بحكم تعاطفهم مع زملائهم، وتعرف هذه المسطرة بدورها اختلالات خطيرة، ويعمد بعض الأطباء المحلفون إلى عرقلة إجراء الخبرة المعروضة عليهم، في الحالات التي يكون فيها الخطأ الطبي مؤكدا، ما يعطل العمل القضائي، هذا من جهة، من جهة أخرى غياب نص قانوني يلزم بالتأمين الإجباري على المسؤولية الطبية المهنية، ينعكس سلبا على علاقة المريض بالطبيب في حالة وقوع خطأ طبي، في انتظار أن يتدارك المشرع هذا الفراغ من خلال مشروع القانون رقم 13/131 المتعلق بمزاولة مهنة الطب، وهو حاليا قيد المصادقة البرلمانية، وتتضمن مقتضيات هذا المشروع بنودا خاصة بحق المريض في الحصول على المعلومات الطبية، وأحكاما جديدة في مجال تنظيم المصحات والتأمين الإجباري بالنسبة للأطباء. ورغم المبادئ الإيجابية التي تضمنها القانون 34/09 بخصوص منظومة العلاج، إلا أنه لا مناص من وضع قانون خاص بحقوق المريض تجسيدا لمقتضيات الفصل 20 من الدستور المغربي الذي ينص على الحق في الحياة، الحق في السلامة الجسدية والمعنوية والكرامة (الفصل 12)، والحق في العلاج والعناية الصحية (الفصل 31)، كما يتعين إرساء ناظم خاص للوساطة عند وقوع حوادث طبية على غرار ما ينص عليه القانون الفرنسي مثلا، لتعويض المتضررين من الأخطاء الطبية، وتسهيل الولوج إلى القضاء بالنسبة للمتضررين، والحرص على تكوين قضاة مختصين في هذا النوع من القضايا. - جل ضحايا الأخطاء الطبية يشتكون من التعقيدات التي تواجههم فيما يتعلق بإثبات الخطأ الطبي خاصة وأن الخبرة الطبية ينجزها أطباء، أليس في الأمر إثقالا لكاهل الضحية ومحاصرة لحقوقه؟ كما سبق وأشرت إلى ذلك، فإن إثبات الخطأ الطبي يرجع عموما إلى القواعد العامة للإثبات، في ظل غياب تشريع خاص بحقوق المريض يسهل عليه إثبات الخطأ الطبي الذي وقع ضحيته، وأعود مرة أخرى للقانون الفرنسي الذي نقل عبء إثبات تبصير المريض حول مرضه، وأعود لأؤكد مرة أخرى حق المريض الثابت في الحصول على ملفه الطبي وحمايته من التزوير الذي قد يطال الملف بعد وقوع خطأ طبي، وقيام أجهزة الضبط وعلى رأسها الهيئة الوطنية للأطباء، والمجلس الجهوي للأطباء ووزارة الصحة، بتنظيم الحصول على الملف ومشتملاته حماية للمريض والطبيب على حد سواء. - هل تتوفرون على أرقام محددة لحالات الخطأ الطبي في جمعيتكم؟ للأسف الشديد لا نتوفر على إحصائيات دقيقة لضحايا الأخطاء الطبية، وهناك نقص كبير في هذا الباب، لأن ضبط عددها، وتصنيفها، وتحليلها، سيمكن بدون شك من تحديد حجم الظاهرة وفهم أعمق لها، وأيضا سيساعد على تقديم اقتراحات ناجعة للحد من الأخطاء الطبية، وهذا العمل من مسؤولية وزارة الصحة ووزارة العدل، والمجتمع المدني الذي يعمل في الميدان. - الأطباء بدورهم يعتبرون أنفسهم ضحايا لضعف الإمكانيات والمعدات الصحية، ألا ترون أن الطبيب يدفع ثمن ضعف قطاع بالكامل؟ في الحقيقة هذا نصف الحقيقة، نعم تدهور الخدمات الطبية يرجع في جزء منه إلى ضعف الوسائل المتاحة أمام مهنيي الطب، وهناك خصاص وعجر كبيرين بشريا وماديا، تقر بهما حتى السلطات العمومية المكلفة بالقطاع، وهناك مؤشرات دالة على ذلك، فمثلا إذا أخذنا مؤشر نسبة الأطباء بالنسبة للمواطنين، نجد أنه في المغرب يوجد 6.2 طبيب لكل 10.000 (10 آلاف) نسمة، في الوقت الذي يوجد في تونس 12.2، و25.6 في الأردن، وبالنسبة للأسرة فالمغرب يتوفر على 10 أسر لكل 10 آلاف نسمة، مقابل 21 في تونس، و18 في الأردن، دون الحديث عن الفوارق الصارخة بين المجالين الحضري والقروي، ولاحظنا في هذا المناخ القاسي نتيجة موجة البرد القارس الذي تعرفه البلاد، والتساقطات المطرية الغزيرة، كيف هي الوضعية البئيسة والصعبة لسكان المناطق الجبلية، ومعاناتهم من صعوبة الولوج إلى الخدمات الصحية. لكن هذا الوضع لا يعكس إلا جزءا من الحقيقة، والجزء الثاني يتعلق بتدهور السلوك الإنساني لمهنيي الطب، وغياب الحكامة داخل المؤسسات الطبية، وضعف التقيد بالقوانين والأنظمة المنظمة للممارسة المهنية الطبية، وأحيانا ضعف الكفاءة واستشراء المحسوبية، واستمرار ظاهرة الإفلات من العقاب. - أثير جدل واسع بين الأطباء ووزارة الصحة بخصوص فتح باب الاستثمار أمام مستثمرين من غير الأطباء، هل تعتقدون بأن الأمر سيحد من الاختلالات التي يعرفها قطاع الصحة؟ أعتقد أن فتح باب الاستثمار في قطاع الصحة أمام المستثمرين من غير الأطباء، على غرار ما هو معمول به في عدد من الدول المتقدمة، قد يساهم في توسيع العرض الصحي الوطني، مع التأكيد على استقلالية الممارسة الطبية المهنية كما نص عليها مشروع القانون 131/13، كما أن صدور المرسوم المتعلق بالخريطة الصحية، بعد طول انتظار، ونظام راميد سيساهمان في التقليص من الاختلالات المجالية والاجتماعية المرتبطة بتوفير الخدمة الطبية التي يجب أن تكون ذات جودة حقيقية. وإذا كان من حلقة أضعف في معادلة تدهور قطاع الصحة فهو المريض، هو الذي يدفع ثمن كل هذه الاختلالات، وهو قلب المنظومة الصحية بل مبرر وجودها، كل ما نرجوه هو أن يرتقي النقاش العمومي حول أزمة المنظومة الصحية بين كل الفاعلين والمتدخلين، سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص، يجب ألا نجلد بعضنا البعض، والمرض في نهاية المطاف يهدد كل إنسان إضافة إلى مهنيي قطاع الصحة، وهم الأولى بالدفاع فعلا عن حقوق المرضى. * رئيس جمعية «حق المريض أولا» الطفل محمد هاشم.. عملية ختان تتحول إلى مأساة في قضية مشابهة إلى حد كبير لمعاناة مصطفى الصغري، كانت قضية الطفل محمد هاشم الرمضاني قد شغلت الرأي العام بشكل لافت، الطفل تعرض لبتر بعد عملية ختان أجراها طبيب عام، خضع بعدها لعملية تقويم الخطأ الطبي الذي تسبب في عيب مؤثر على مستوى عضوه الذكري، لتبدأ أسرة الطفل رحلة البحث عن إنصاف ابنها، وتتحول أم الضحية إلهام النعوري إلى باحثة عن حقوق ضحايا الأخطاء الطبية وتتكلف بملاحقة ملفات الضحايا. إلهام التي تروي قصة معاناة ابنها منذ عودتها رفقة زوجها من الديار الكندية قبل ثلاث سنوات، بعد هجرة قصيرة، تقول إنها نقلت ابنها إلى مصحة خاصة بالدارالبيضاء لإجراء جراحة بسيطة «ختان»، العملية تمت في وقت وجيز لكونها لا تتطلب جهدا ومعرفة طبية كبيرة، ويمكن لأي طبيب عام أن يجريها، لكن بعد أيام من الختان ستفاجأ الأم بمعاناة ابنها أثناء التبول وظهور التهابات وانتفاخ بقضيبه، ولترفع الشك حول حالة ابنها عرضته على طبيب مختص في جراحة الأطفال، هذا الأخير أكد لها بعد المعاينة والفحص أن جزءا من قضيب ابنها تعرض للبتر، وأن مسالكه البولية تضررت نتيجة عملية الختان، وهو في حاجة لتدخل جراحي لتقويم هذا البتر، قبلت الأم باقتراح الطبيب الذي أجرى العملية، لكنه رفض تحرير شهادة طبية تبين نسبة البتر، والمثير في الأمر أن الطبيب الذي أجرى عملية التقويم لم يمد الأسرة بملف طبي رسمي يبين أسباب إجراء العملية، ومدى مسؤولية الطبيب الذي أجرى الختان عن الأضرار التي لحقت حشفة العضو الذكري للطفل محمد هاشم، ورغم المراسلات التي توصل بها مكتب وزير الصحة، والتي تضمنت تفاصيل الحادث، ورفض الطبيب المختص تسليم الأسرة بيانا رسميا لحالة الطفل ودواعي التدخل التصحيحي، إلا أن الوزارة لم تتحرك لكشف الحقيقة حسب الأسرة. أم محمد هاشم، كونت ملفا كاملا عن حالة ابنها، واستعانت بثلاث خبرات طبية لمختبرات مختصة، اثنين بكندا، والثالث بفرنسا، الأولى التي أجراها طبيب خبير بالمركز الاستشفائي الجامعي بمونريال بكندا بتاريخ 27 يونيو 2013، أي 7 أسابيع بعد عملية الترميم، تبين أن نسبة البتر تتراوح بين 10 إلى 20 في المائة، وهي النتائج التي أكدتها خبرة أجريت بالمستشفى الأمريكي بباريس في الثالث من فبراير 2014، لكن الغموض ظل سيد الموقف نتيجة تضارب تقارير الخبرات التي أجراها أطباء مغاربة على الطفل، حيث تبين الخبرة التي أجراها طبيب اختصاصي في جراحة وطب الأطفال بتاريخ 2 ماي 2013، أن نسبة البتر بلغت 5%. الأم لم تترك مكتب مسؤول إلا وطرقت أبوابه، حيث رفعت شكوى ضد الطبيبين إلى كل من وزير الصحة، وزير العدل والحريات، رئيس الهيئة الوطنية للأطباء، وبرلمانيين، لكن لم يكن تجاوب هذه الأطراف مقنعا، عدا البرلماني عبد العزيز أفتاتي الذي راسل وزيري العدل والحريات، والصحة، ووجه إليهما سؤالا كتابيا في الموضوع، حسب شهادة أم محمد هاشم، وهو الأمر الذي أكده أفتاتي الذي وعد بمتابعة ملف الأخطاء الطبية حتى يتم إنصاف الضحايا، وينال المتلاعبون بصحة المواطنين جزاءهم، وأكد أفتاتي أن ملفات الأخطاء الطبية تعرف تجاوزات بالفعل، وعلى وزير الصحة ووزير العدل تحمل مسؤوليتهما، فوزير الصحة هو المسؤول المباشر على القطاع، بينما مسؤولية وزير العدل تتحدد في العمل على تحسين ظروف التقاضي وجعل المساطر القضائية أكثر ليونة وفي صالح الضحايا. في الجانب الآخر من المعاناة، تقول أم محمد إن معاناة ابنها ومعاناتها تزداد مع تقدمه في السن، فكلما وعى الطفل بالمشكلة التي يعانيها زادت أزمته النفسية، وتقول إلهام إن ابنها يسألها بشكل متكرر عن حالة عضوه الذكري، ولم تخفي تخوفاتها من الانعكاسات النفسية للتشوه الذي يعانيه طفلها عندما يكبر، مشيرة إلى أن الجانب النفسي مغيب تماما عندما يتم الحديث عن ضحايا الأخطاء الطبية. القضاء ورغم مسلسل التقارير الطبية المتضاربة، ومحاولات الطبيب تبرئة ذمته من المسؤولية عن الخطأ، حكم في نهاية المطاف لصالح الضحية محمد هاشم، وأدان الطبيب بثلاثة أشهر سجنا نافذا، وتعويضا ماليا بقيمة 20 مليون سنتيم لفائدة الضحية، لكن الأسرة اعتبرت الحكم مخففا وغير منصف، لتواصل رحلة البحث عن الإنصاف. عبد العزيز أفتاتي*: هناك حالات تواطؤ من أجل التستر على أخطاء جسيمة قال إنه ينبغي استنفاد التشريعات الحالية قبل الحديث عن تشريع خاص بالأخطاء الطبية - أصبحت قضايا الأخطاء الطبية متداولة بشكل مثير للانتباه في الآونة الأخيرة، بحكم اشتغالكم على الموضوع هل يعود الأمر في نظركم إلى تزايد هذه الأخطاء أم لأسباب أخرى؟ لقد تطورت ثقافة التواصل لدى المواطنين، وتطور تواصلهم مع جهات مختلفة بما فيها وسائل الإعلام، وإذا كانت الأخطاء الطبية قد زادت بالفعل فإن الأمر سيكون سيئا، لكني أعتقد أن السبب في بروز الظاهرة بشكل أكبر يعود أساسا إلى إقدام الضحايا على كشف هذه الأخطاء، وتوجههم للإعلام المكتوب أو السمعي البصري، وهذا الأمر يعكس تطورا في وعي الناس واستعدادهم للدفاع عن حقوقهم بكافة الوسائل ومن بينها اللجوء إلى الإعلام، وهذا مؤشر إيجابي - هل يعود السبب إلى ضعف الكفاءة المهنية لدى الأطباء وعدم أدائهم لمهامهم أم يعود إلى ضعف البنيات التحتية لقطاع الصحة وقلة الإمكانيات؟ من المؤكد أن الأسباب لها علاقة بجشع البعض، لأن الأخطاء الطبية لم تعد حكرا على المستشفيات العمومية، ويمكن فهم وجود هذه الأخطاء في القطاع العام، لعدة أسباب من بينها الضغط وكثافة الطلب على خدمات هذه المؤسسات، ما يجعل إمكانية وقوع الأخطاء أمرا واردا ومفهوما، لكن الأخطاء الطبية انتقلت اليوم إلى القطاع الخاص، وبعض العاملين في هذا القطاع يتدخلون أحيانا فيما لا يعنيهم، أو في حالات تفوق إمكانياتهم، بحيث أن المصحات الخاصة تتدخل أحيانا بشكل متسرع ودون مراعاة قدراتها وإمكانياتها فيحدث الخطأ، وكل هذا بغرض الربح، وبدافع الجشع، فعلى سبيل المثال يكون عدد التدخلات الطبية مكثفا وحتى دون توفر المعدات اللازمة وكل هذا بغرض تحقيق أرباح مادية أكبر. - هناك من يعتبر أن الخصاص الكبير الذي يعانيه القطاع الخاص والعام على حد سواء في عدد الأطباء وخاصة المتخصصين واحد من الأسباب في وقوع الأخطاء، حيث يضطر الأطباء إلى التدخل في حالات مستعجلة رغم الضغط وضعف الإمكانيات، هل يمكن أن يعتبر هذا المبرر مقبولا؟ بطبيعة الحال لابد من تقديم الإسعافات للمرضى في حالة خطيرة، لكن هذه التدخلات يجب أن تراعي توفر الوسائل، ولا يمكن أن تكون مقبولة في حال كان التدخل سيزيد من تفاقم الأضرار بالنسبة للمريض، ففي هذه الحالة الطبيب ملزم بتقديم إسعافات لإنقاذ المريض في انتظار إحالته على مختصين أو على المؤسسات الاستشفائية الإقليمية أو الوطنية، ولا يمكن أن يكون إلزام القانون للأطباء بالتدخل لإسعاف المرضى في حالة الخطر مبررا لإلحاق الضرر بهم، واليوم المنشآت الاستشفائية الجامعية متوفرة في أكثر من جهة، كما يتوفر المغرب على مستشفيات عسكرية مجهزة. - وجهت الكثير من الاتهامات للجان المحلفة المكلفة بإجراء الخبرة الطبية التي تعينها وزارة الصحة بإنجاز تقارير مغلوطة أو مبنية على معاينة بالعين المجردة وهذا الأمر يؤثر على القضاء ويحرف الحقائق.... هذا الأمر صحيح... صحيح أن بعض اللجان تمارس نوعا من التواطؤ، وهناك بالفعل حالات تواطؤ من أجل التستر على أخطاء جسيمة، وللأسف هذه الأخطاء تكررت في المنشأة الطبية نفسها ومن طرف الشخص/الطبيب نفسه، وأكثر من هذا يتم اللجوء إلى إبطاء عملية البت في الملفات المعروضة على الخبرة ليصاب المشتكي بالإعياء واليأس ويتخلى عن مطالبته بإنصافه، وهنا يأتي دور وزارة الصحة التي يجب عليها أن تتابع مسار هذه الملفات، بما في ذلك الأجندة المتعلقة بالإحالة والبت والبت النهائي، وعرض الملف على الجهات المختصة، وعلى مسؤولي الصحة متابعة هذه الملفات بتواريخها، لأنه بالفعل يوجد تواطؤ وإبطاء للملفات في بعض الحالات، وهناك بعض الأطباء من عديمي الضمير يتدخلون وهم على معرفة بمسارات هذه الملفات والشكايات، وبالفعل هذا واحد من الاختلالات التي يجب الانتباه إليها، وعلى المسؤولين أن يسرعوا مسارها، كما أن وزارة العدل مطالبة بالتدخل في هذه الحالات من جانبها، وبالمناسبة توصلت بحالات لضحايا أخطاء طبية لجؤوا إلى القضاء بعد أن تبين لهم وجود محاولات إخفاء أو تحريف الحقائق أو وجود تماطل سافر في ملفات لا تحتاج لخبرات كبيرة، وهي ملفات محسومة... - حتى في الحالات التي تكون فيها نتائج الخبرة الطبية في صالح الضحية؟ تماما، هذا الأمر واقع وينبغي التعاون بين الجميع من أجل التصدي لمثل هذه الممارسات، لأن مثل هذه الممارسات تمنع إنصاف الضحايا، وفي نهاية المطاف يتضرر المشتكي ولا يتم إنصافه، وهذا أمر غير معقول إطلاقا، وبالتالي يجب أن تسير الأمور حتى النهاية بكل شفافية ونزاهة حتى يتحقق الإنصاف والعدل، وأنا شخصيا اتصلت بي مشتكية ضحية خطأ طبي، وتحدثت إلي مطولا وكانت في وضعية صعبة للغاية، وأنا من جانبي قمت بمجهود كبير من أجل تهدئتها، ووعدتها بأني أمنحها جميع الضمانات بمتابعة ملفها، وأنا بالفعل أتابع معها الموضوع ووجهت سؤالا كتابيا في الموضوع لكل من وزير الصحة ووزير العدل، وإذا لم تكفي هذه المساءلة الكتابية لتحريك الملف، سأوجه مساءلة شفوية بمجلس النواب لكل من الوزيرين، وسألجأ لعرض هذا الملف على اللجان الدائمة بالبرلمان، والقيام بالمهام الاستطلاعية في هذه الملفات، لأن هذا الموضوع لا يجب أن يأخذ مسارا خاطئا، وأنني أؤكد مرة أخرى أن هذه التجاوزات موجودة ولابد أن تتعاون جميع القطاعات للحد منها، وحتى يسترجع المواطنون حقوقهم. - من الناحية التشريعية يرى متتبعون أن القانون المغربي يعاني من فراغ بغياب قانون خاص بالأخطاء الطبية، ويتم اعتماد قانون الالتزامات والعقود والقانون الجنائي في النزاعات الخاصة بهذه الملفات، وغالبا ما يتحمل الضحية عبء إثبات العلاقة السببية بين الخطأ والضرر بدل أن يكون القانون في مصلحته، أنتم كممثلين للسلطة التشريعية ألم تفكروا في تدارك هذا الفراغ؟ هذا الموضوع يتطلب المعالجة الدقيقة والمتأنية، حتى لا نخلق وضعا غير صحي في القطاع، ولكن إذا دعت الضرورة ينبغي استكمال التشريع القائم بقوانين جاري بها العمل في البلدان التي أثبتت نجاعتها في هذا الجانب، ولكن هنا يجب أن يكون التصرف موضوعيا، حتى لا نسلط سيف الشكايات والمتابعات على رقاب الأطباء، وبالتالي يجب التعامل بحذر مع الأمر، وفي نظري ينبغي استنفاد التشريعات الحالية قبل الحديث عن تشريع خاص بالأخطاء الطبية، وهذا الأمر لا يطرح مشكلا ونحن نستلهم التجارب الناجحة أينما كانت، ولا أعتقد أن المشكل موجود في الجانب التشريعي. - يشتكي الضحايا أيضا من تعقيد المساطر القضائية، كمسؤولية إثبات الضرر، غياب قضاة متخصصين للبت في ملفات جزء مهم منها تقني صرف... ألا يشكل هذا النقض عائقا آخر أمام إنصاف الضحايا؟ هذا الموضوع المتعلق بالقضاء يخضع للتراكم، ولحدود اليوم أثبت التراكم وجود خصاص في الكثير من المجالات والقضايا، إما بسبب غياب قضاة مختصين أو قلتهم، وكمثال على ذلك المحاكم المالية الخاصة بالجرائم المالية، ولكن القضاة بإمكانهم الاستعانة بالخبرة الطبية لإصدار أحكامهم، وهي خبرة تنجزها منشآت عمومية، بالنظر إلى وجود مؤسسات استشفائية جهوية وعسكرية فيها كفاءات عالية قادرة على إنجاز هذا الشق مسار التقاضي، وينبغي استثمار الخبرة المتوفرة دون انتظار وجود قضاة متخصصين، وهذه القضية تتطلب النزاهة والنجاعة والإسراع في البت في الملفات، خاصة وأن هذه الملفات لا تتحمل التأخير.
* برلماني عن العدالة والتنمية أعد الملف - عماد شقيري