مرة، سألني مسؤول أجنبي عن أهم الصحف المغربية المؤثرة في البلاد، فأجبته على الفور: إنها «لوموند»! اعتقد الرجل أني لم أسمع سؤاله جيدا فكرره، فكررت عليه الجواب نفسه، وقلت له بنبرة أقوى: إنها صحيفة «لوموند». قال لي المسؤول الأوربي إن «لوموند» ليست مغربية، وأنا أسأل عن الصحف المغربية المؤثرة، كررت له الجواب نفسه وتصنعت بعض اللؤم والاصفرار في ابتسامتي حتى لا أضطر إلى تكرار الجواب نفسه، وأخيرا فهم الرجل، أو كاد. استفضت أكثر في الشرح، وقلت له إن «لوموند» ليست هي الصحيفة «المغربية» المؤثرة الوحيدة في البلاد، بل هناك أيضا «لوفيغارو» و»إيل باييس» وإيل موندو» و»الدايلي مايل» و»الواشنطن بوست» و»نيويورك تايمز».. وأخرى كثيرة. وأخيرا، استوعب ذلك الرجل أن تأثير الصحف المغربية لا يساوي شيئا أمام التأثير الكبير للصحف الأوربية والأمريكية، وأنا ساهمت في تأجيج يقينه بذلك عندما قلت له إننا نكتب عن فضائح كثيرة، كثيرة جدا، لكنها تمرّ، في أحيان كثيرة، كما يمر «الكارْ من أمام الدوّار»؛ وفي أحيان أخرى، نجد أنفسنا في الكوميساريات أو المحاكم، لكن عندما تكتبُ عن الموضوع نفسه صحفٌ أوربية وأمريكية، ولو بضعة أسطر، فإن المغرب ينقلب على قفاه مثل سلحفاة عجوز. هذه الأيام، حدث ذلك فعلا وانقلب المغرب على ظهره لأن صحيفة «لوموند» كتبت عن المغرب مرة أخرى، وهذه المرة بدا الموضوع جديا لأنه يطرق قضية على قدر كبير من الحساسية، وهي تهريب أموال البلاد نحو البنوك الأجنبية، مع ما يتبع ذلك من تهرب من الضرائب وغسيل للأموال ونهب لأرزاق المغاربة. تفاصيل هذه القضية اهتم بها المغاربة جميعا، خصوصا وأن الصحيفة الفرنسية قالت إن لديها لائحة بأسماء أزيد من ألف شخصية مغربية، من مختلف المراتب السياسية والعسكرية والاقتصادية، تضع أموالها في بنك سويسري شهير. المغاربة جميعا يعرفون أن مسوؤليهم يُهرّبون الأموال إلى الخارج، بينما نظل نطلب الاستثمارات الأجنبية مثل متسولين في ساحة «باب الحد» صباح الجمعة؛ والصحف المغربية تكتب عن هذا الموضوع باستمرار، لكن فقط من «لفوق لْفوق»، لذلك من الضروري أن نتساءل: لماذا تؤثر فينا صحف أجنبية بهذه الدرجة الرهيبة، إلى حد أن أزيد من ألف شخصية مغربية جافاها النوم منذ اليوم الذي أعلنت فيه «لوموند» توفرها على اللائحة السوداء. الموضوع الأخير لصحيفة «لوموند» الفرنسية هو مجرد مثال واحد من بين عشرات أو مئات الأمثلة الأخرى التي أحس فيها المسؤولون المغاربة وغيرهم، من الذين يعتقدون أنفسهم فوق القانون، بأن الصحافة هي فعلا سلطة رابعة، وأن الصحافة بإمكانها فعلا أن تقلب النعيم إلى جحيم، وأن الصحافة، وهذا هو الأهم، لا يمكنك أن تلجمها بالاستدعاءات المتواصلة إلى الكوميسارية والتهديد بالمتابعة القضائية وتغريمها مبالغ خيالية لإخافتها وترهيبها. نحن في المغرب، وبعد قرون على ظهور الصحافة، لم نصل بعد إلى مرحلة يمكننا فيها أن نمنع النوم على جفون المئات أو الآلاف من المسؤولين والأغنياء المغاربة، مثلما فعلت «لوموند» هذه الأيام. ونحن اليوم في المغرب لم نملك بعد العقلية الإعلامية التي تجعل صحافيا ما يستيقظ صباحا ويقول لنفسه: هذا اليوم سأفعل شيئا مختلفا، ثم يبدأ في «حفر» تحقيق شاق وصعب حول ثروات المسؤولين المغاربة في البنوك الأجنبية، والمشكلة هي أنه لو حدث وقررت صحيفة مغربية أن تفعل مثل «لوموند» فإنها ستجد نفسها فجأة تحت وطأة مئات الدعاوى القضائية، والآلاف من المكالمات التلفونية المهددة، وأشياء كثيرة أخرى لا داعي إلى حصرها. أتذكر أننا كتبنا، يوما، موضوعا عن فضائح وحوش العقار، وهي فضائح موثقة بالحجة والدليل ويعرفها كل المغاربة؛ وبعد بضعة أيام، طولبنا بحضور محاكمة لأن وحوش العقار «دْعاوْنا» وطالبوا بتعويض قدره مليار سنتيم.. نعم مليار سنتيم. ماذا لو أن صحيفة «لوموند» هي التي كتبت ذلك الموضوع، هل كان لوحش عقاري ما، أن يمتلك الشجاعة لرفع مجرد سبابته أمام تلك الصحيفة؟ مصيبتنا ليست فقط في فساد مسوؤلينا وتهريب أموالنا ونهب أرزاقنا، بل مصيبتنا الكبرى في كوننا لم نستطع صنع إعلام حقيقي ووازن، ومصيبتنا هي أننا لم نستطع صنع قوانين حقيقية تحمي الإعلام الحر والرصين من وحشية الفساد وطغيان المفسدين، ومصيبتنا الأخرى هي أننا لازلنا مترددين في حذف القوانين الجنائية من مجال الإعلام، وكأن كل صحافي مجرم حتى تثبت براءته. ما نعيشه، اليوم، من وهن كبير لصحافتنا وتكالب عليها، لم يأت صدفة، فالمغرب كان من أولى البلدان التي صدرت فيها صحف منذ القرن التاسع عشر، حيث صدرت أول صحيفة في طنجة؛ لكن رغم كل هذا الزمن الطويل، لاتزال العقلية السائدة في التعامل مع الصحافة المغربية تلخصها تلك الفتوى القديمة التي أصدرها فقيه مغربي وعنوانها: الضّرب بالزّراويط على رأس من يقرأ الكوازيط.