بالتأكيد، إن تصنيف الكُتب هو أحد سُبل قراءتها. ولعل فعلََ ترتيبها على أرفف مكتباتنا الشخصية يصدر، في العمق، عن هذه النية تحديدا، بغض النظر عمَّا يمكن أن يترتب عن ذلك من إيحاءات طبقية، تتصل بالتظاهر بامتلاك الرأسمال الرمزي. ولا يرتبط هذا التصنيف فقط بمعيار التجنيس الثقافي والأدبي للكتب، وإنما يمكنُ أن يرتبط أيضا بالاستعمال الشخصي لها، فنُوزعُها، حسب هذا المتغير، إلى كُتب للنهار وأخرى لليل كتب الشمس وكتب القمر. وربما كان هذا التصنيف الذاتي، الصادر عن دواع شخصية، هو المسؤول أكثر عمَّا يمكن أن يلحق بمكتباتنا من فوضى مؤقتة، تجعل بعض الكتب العزيزة تغادر أرففها، لتهجم على فضاءات وأماكن أخرى داخل البيت، قد لا تكون مخصصة للقراءة. ربما، كانت الكتب، أو على الأقل بعضها، تنطوي، بين دفتيها، على ما يسمح بتصنيفها إلى كتب للنهار وأخرى لليل. وربما كان هذا التقويم الطبيعي الرمزي، منبثقا عن انشغالات ثقافية، تخص، تحديدا، الذات القارئة، في علاقتها بأسئلتها الخاصة، بأهوائها الغامضة وميتافيزيقاها الشخصية. ولعل نقطة التقاطع الدقيقة بين المكونين هي التي تجذب القارئ، في النهاية، إلى إجراء منهجي لا يخلو من بعد انطولوجي، تتوزع بموجبه بيبليوغرافيا مكتبته الشخصية إلى بيبليوغرافيا للنهار وأخرى لليل. لا يخفى على أحد أن النهار يُجَسد زمنا للدأب والعمل، بينما الليل يمثل فضاء للاسترخاء والراحة. في النهار نهجم على العالم، وفي الليل نسكن لأنفسنا. في النهار، نكون مسورين بالإرغام والواجب، بينما، في الليل، نطلق العنان للحلم والرغبة. هذا التوزيع للنشاط الإنساني، حسب التقويم الطبيعي والثقافي لليل والنهار، لا ينظم فقط نشاط اليد الصانعة والعاملة، وإنما كذلك نشاط اليد المفكرة، المتأملة، الكاتبة والقارئة. لذلك، أجد من الملائم، تماما، أن نتاج هذا النشاط يمكن أن يُصنَّف، حسب الطاقة أو الرغبة المتشكلة داخله، إلى كتب لليل وأخرى للنهار. طبعا، لم تكن الكتابة أبدا منفصلة عن القراءة. فهما معا محفزان بالعطر المضوع من قلبيهما، وبالمساحة التي ينتشر فيها. لذلك، فعندما تشرق الشمس، تجد اليدُ القارئة نفسها منقادة نحو كتب الواجب. وليست كتب الواجب هذه غير تلك البيبليوغرافيا الخاصة المرتبطة بفضاء البحث والتخصص. إنها كتب تشرط مصير الباحثين إلى درجة الضجر. والواقع أنه ما إن تتحول بيبليوغرافيا ما إلى إرغام بحثي أو مدرسي حتى تكون لها كل أسباب إحداث الأذى بالقارئ. ولولا ما يتميز به عمل بعض الباحثين المميزين من صبر وذكاء وألمعية وقدرة على إحداث شقوق يتسرب منها ضوء شخصي، لتحول برنامجهم اليومي إلى آلة لتعذيب الذات. إن ما نجنيه نحن من متعة في قراءة أعمال هؤلاء الكتاب لا ينبغي أن يخفي عنا كدحهم الطويل، الذي قد يكون حول نهارهم إلى قطعة من الجحيم. كتب النهار تنطوي، في الواقع، على بذرة سادية، تهرب منها بسرعة الأرواح غير المتمرسة بصعود الجبال أو النزول إلى المهاوي. تقفُ منها على مسافة تُؤمِّن لها سعادتها الشمسية بعيدا عن حرقة الفكر وكدر الأسئلة. لكن القراءة المأخوذة بلسعة الواجب، تقرأ هذه الكتب بصبر، باحثة عن مائها الخاص، الذي يُسعفُ باستنبات بذرة أخرى للكتابة، قابلة لأن تتحول، مع الوقت والجهد، إلى عمل آخر، سرعان ما يأخذ طريقه، كلما توفر له العُصاب الضروري، إلى الانتظام في مكتبة النهار والليل، المشرعة على آمال القراءة المنعشة. إن كتب الليل المدموغة بلذتنا الخاصة قد لا تكون تماما من صنف ما ينضبطُ تماما لجرعات الحداثة أو الطلائعية، بل يمكن أن تكون كتبا تغوي بكلاسيكيتها المُستقرة، فتهرب إليها أرواح أعياها النهارُ في مقارعة بناءات فنية مستعصية، تتقدم بلا ذيل ولا رأس. هكذا كان يفعل رولان بارت، فيما يذكر كليطو الحكيم.