الحديث الطاغي في اليابان حاليا، والمتداول في الجامعات والمدارس والمجالس الخاصة، ويتصدر عناوين الصحف ونشرات أخبار التلفزة هو عن إعدام «الدولة الإسلامية» للرهينة الياباني هاورنا باكادوا بعد رفض الحكومة تقديم «فدية» مقدارها 200 مليون دولار يوم الجمعة الماضي، وكيفية إنقاذ الرهينة الثاني الصحافي كينغي غوتو الذي مازال على قيد الحياة، ووجه نداء مؤثرا إلى الشعب الياباني قال فيه، بلغة إنجليزية بلكنة يابانية:»إنهم لم يعودوا يطالبون بالفدية وإنما بالإفراج عن شقيقتهم ساجدة الريشاوي وسيتم إطلاق سراحي فورا، وربما تكون هذه آخر كلماتي.. لا تجعلوا آبي (رئيس الوزراء) يقتلني». السيدة ساجدة الريشاوي، المحكومة بالإعدام بتهمة المشاركة في تفجيرات عمان عام 2005 الدموية (لم ينفجر حزامها الناسف)، باتت صورها في كل مكان في اليابان، وأضحت معروفة لدى اليابانيين أكثر من نجمات السينما اليابانية، بغطاء رأسها الأبيض وتقاطيع وجهها العربية. اليابانيون باتوا يعوفون، أيضا، اسم معاذ الكساسبة الطيار الأردني الذي جرى أسره بعد إسقاط طائرته بصاروخ قبل شهر فوق مدينة الرقة السورية، عاصمة «الدولة الإسلامية»، والسبب أن «الدولة الإسلامية» غيرت شروطها، وأسقطت الفدية المالية وأعربت عن استعدادها الإفراج عنه، أي الكساسبة، إلى جانب الرهينة الياباني إذا ما أفرجت السلطات الأردنية عن السيدة الريشاوي. حالة من الجدل تدور في الأوساط السياسية والجامعية في اليابان التي أزورها حاليا (بدعوة من جامعة أوساكا للحديث عن الدولة الإسلامية، وكتابي الأخير الصادر حول نشأتها ومستقبلها ونفدت الطبعة الأولى منه في أقل من شهر)، فهناك من يلوم رئيس الوزراء لأنه لم يدفع الفدية في الوقت المحدد، وهناك من يؤيد موقفه في رفض الخضوع لشروط الخاطفين، ويصلي المعسكران من أجل تجاوب الأردن مع الشرط المعدل، أي الإفراج عن السيدة الريشاوي والحصول على رهينتين في المقابل، على طريقة «السوبرماركت» (أفرج عن السيدة الريشاوي فتحصل على الثاني مجانا). لا نفهم لماذا ترفض السلطات الأردنية الإفراج عن السيدة الريشاوي إذا كانت ستحقق أمرين على درجة عالية من الأهمية، أي الإفراج عن الطيار الكساسبة والرهينة الياباني معا، وتضرب بذلك عصفورين بحجر واحد وتنقذ حياة رجلين أحدهما أردني، والثاني يمكن أن يؤدي الإفراج عنه إلى علاقات وثيقة مع بلد غني متقدم مثل اليابان يمكنه أن يقدم مساعدات مالية وتقنية للأردن. لو كان الأردن يرفض التفاوض بالمطلق مع الجهاديين المتشددين والتجاوب مع مطالبهم بالإفراج عن معتقلين في سجونه، مثلما تفعل دول مثل بريطانياوأمريكا، ويعتبر عدم التنازل مسألة مبدئية، فإنه يمكن تفهم وبالتالي تبرير موقفه هذا، ولكن الحال ليس كذلك، والحكومة الأردنية سجلت سابقة مهمة في هذا الصدد عندما أفرجت عن القيادي الليبي محمد الدرسي، عضو تنظيم «القاعدة» المتهم بمحاولة تفجير مطار عسكري أردني 2007، مقابل الإفراج عن السفير الأردني فواز العيطان الذي احتجزته جماعة أنصار الشريعة الإسلامية الليبية. حتى أمريكا كسرت قاعدة عدم التفاوض مع الخاطفين هذه عندما دفعت فدية غير مباشرة لحركة طالبان مقابل الإفراج عن جندي أمريكي كان محتجزا لديها، ودافع الرئيس أوباما بشدة عن هذه الخطوة أمام منتقديه الشرسين في الكونغرس ووسائل الإعلام. الإصرار على عدم التفاوض مع الخاطفين تحت ذريعة أنهم «إرهابيون» وأن التنازل لمطالبهم يؤدي إلى تشجيعهم على الإقدام على المزيد من أعمال الخطف «أكذوبة»، لأن الحكومات تتفاوض مع «الإرهابيين» في نهاية المطاف وتعترف بهم، ويكون الضحايا هم الأبرياء الذين يتم إعدامهم نتيجة هذا «العناد» الكاذب. بريطانيا تفاوضت مع الجيش الجمهوري الإيرلندي واعترفت به وهي التي كانت ترفض حتى السماح بالاستماع إلى أصوات أعضائه أو رؤية وجوههم على شاشات التلفزة؛ وأمريكا العظمى أجبرتها الهزيمة في أفغانستان على التفاوض مع حركة «طالبان» من أجل تسليمها السلطة، وأوعزت إلى دولة قطر بفتح سفارة لها، أي لطالبان، في الدوحة؛ ولا ننسى اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية واضطرارها إلى التجاوب مع كل شروط الجبهة الشعبية القيادة العامة (برئاسة أحمد جبريل) والإفراج عن 77 أسيرا فلسطينيا في ما عرف حينها -عام 1979- بعملية النورس، وبعد ذلك التفاوض مع حزب الله للإفراج عن مجموعة أسرى من بينهم الشيخ مصطفى الديراني وعميد الأسرى العرب سمير قنطار. فما هي الفائدة التي يمكن أن تجنيها السلطات الأردنية جراء احتفاظها بالسيدة ساجدة الريشاوي خلف القضبان؟ وما هو أقصى ما يمكن أن تلحقه بها من عقاب.. الإعدام مثلا؟ هذا ليس عقابا وإنما «مكافأة»، فلو كانت السيدة الريشاوي تخشى الموت لما تزنرت بالحزام الناسف، ولا نبالغ إذا قلنا إنها تتمناه لأنه طريقها الأقصر إلى جنات الخلد حيث دار البقاء. إبقاء السيدة الريشاوي خلف القضبان يعني تنفيذ الإعدام في الطيار الكساسبة، ناهيك عن الرهينة الياباني، وأسر طيارين أو مسؤولين أردنيين آخرين والمطالبة بالإفراج عنها مقابل الإفراج عنهم أو منع إعدامهم، أو هكذا نعتقد، وهذا لا يعني أننا ضد تطبيق القانون أو عدم معاقبة منتهكيه، وإنما ننظر إلى الأمر من منطلق جلب المنافع وتقليص الأضرار. نناشد السلطات الأردنية الإفراج عن السيدة الريشاوي في أسرع وقت ممكن إنقاذا للطيار الكساسبة وللأسير الياباني، لأن العناد غير مجد في هذه الحالة، وسيؤدي إلى إعدام هذا الطيار الشاب وتبعات أخرى تتعلق بأسرته وعشيرته، لا نريد الخوض فيها في هذا المضمار. «الدولة الإسلامية» قوية، وتقول وتفعل، وإذا أعطت مهلة فإنها تحترمها، وإذا وعدت بالإفراج عن رهينة فإنها تنفذ وعودَها دون نقصان. معرفتي بالجماعات الجهادية، من خلال الدراسة والبحث والمقابلات بغرض التأليف تؤكد أن هؤلاء لا يكذبون مطلقا، لأسباب دينية عقائدية، اختلف معهم البعض أو اتفق. دمويون نعم.. إرهابيون نعم.. ولكنهم إذا قالوا فعلوا.. واتهامهم بالإرهاب بالمناسبة لا يضيرهم بل يسعدهم، والآية القرآنية التي تقول بإرهاب أعداء الله موثقة ولا داعي إلى تكرارها هنا، ونأمل ألا تنتهي مهلة ال24 ساعة التي حددتها «الدولة الإسلامية» قبل الإفراج عن السيدة الريشاوي.