جميل أن نصرح، بمناسبة أحداث باريس الإرهابية الأخيرة، بأن صحافيي (شارلي إيبدو) كانوا يعلمون بأن بعض المواد المنشورة بصحيفتهم الساخرة يمكن أن تثير ردود فعل عنيفة من أوساط إسلامية متطرفة، وأن ذلك، ربما، كان يفرض عليهم، من زاوية الحكمة والتبصر وليس من زاوية التزامهم أو عدم التزامهم بالحدود المتعارف عليها لحرية التعبير، أن يفعلوا مثل أغلب زملائهم في العالم ويتجنبوا نشر مثل تلك المواد، رغم أن قوانين بلدانهم لا تمنعهم من هذا النشر. وجميل أن نطلب من الغرب، كما استحضر ضحايا مجزرة شارلي إيبدو والمتجر اليهودي، أن يستحضر، بنفس الدرجة من الاهتمام والعناية والاحتفاء، الضحايا المدنيين المسلمين الذين سقطوا بالآلاف، في غزة والعراق ولبنان، بنيران الآلة العسكرية في كل من إسرائيل وأمريكا وغيرهما، نتيجة حروب ظالمة وغير مشروعة وعمياء أتت على الأخضر واليابس. وجميل أن ننتبه إلى ضرورة حل مشاكل «شباب الضواحي»، المسلم وغير المسلم، في باريس وغيرها من العواصم الغربية، التي تجعله عرضة للاستقطاب السهل من طرف الشبكات المتطرفة. وجميل أن نذكر العالم بأن الجرح الفلسطيني، في وجدان جماهير العرب والمسلمين، مازال غائرا ونازفا وقادرا على إنتاج ردود فعل عنيفة. وجميل أن نؤكد أن الإرهاب هو من عمل أقلية من المسلمين، أما أغلبيتهم فلا علاقة لها به، بل إن ضحاياه، من الديانة المحمدية، يسقطون، يوميا، في اليمن وسوريا والعراق... إلخ. وجميل أن نندد بصنيع اليمين الغربي المتطرف الذي يغذي الإسلاموفوبيا ويتسبب في وقوع ضحايا مسالمين وفي المس بالكرامة الإنسانية وبالنزعة الرأسمالية لمؤسسات حوَّلت السخرية من المسلمين إلى سلعة. ولكن، هل هذا يكفي، اليوم؟ ألم يحن أوان مراجعة تصورنا عن أنفسنا كمسلمين وطريقة تمثلنا لديننا الحنيف وتقديرنا لنوع المتطلبات والواجبات التي يفرضها علينا الدفاع عن الإسلام؟ ألسنا مسؤولين عن تلقين أبنائنا، منذ الصغر، نوعا من الإسلام الذي تمثل بعض ردود الفعل، المصنفة في خانة التعصب والتطرف والعنف، نتيجته المنطقية وثمرته الطبيعية؟ أليس من واجبنا أن نتساءل عن السر في كون أتباع الديانات الأخرى لا يشعرون بأية حاجة إلى استعمال ردود الفعل، تلك، في الدفاع عن دياناتهم وحمايتها من الإساءات وأوجه المساس بها؟ ألا يظهر، أحيانا، أن الإسلامَ، الذي نزعم المنافحة عنه، غريبٌ، نوعا ما، عن الإسلام الذي بنى أبناؤه حضارة شامخة، في عصور الانحطاط الأوربي، وأسهموا، تبعا لذلك، في إرساء قاعدة الحضارة الحديثة من خلال ترجمة الأعمال الإغريقية الكبرى ووضع مؤلفات ثمينة، في العلوم والفنون والآداب، غيرت وجه المعرفة الإنسانية والإبداع البشري؟ ألا نرى، أحيانا، أن التركيبة الذهنية لمسلم القرن الواحد والعشرين تبدو غارقة في التخلف مقارنة بالتركيبة الذهنية لمسلمين من أمثال الفارابي والكندي وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وجابر بن حيان والرازي وابن سينا وابن حزم والزهراوي وابن باجة وزرياب... إلخ؟ إننا نقيم، ربما، نوعا من العلاقة المَرَضِيَة مع الهوية. الإسلام يمثل، طبعا، العنصر الأساسي -وليس الوحيد- في تشكيل هويتنا، ولكن المثير هو أننا ننطلق، في الكثير من الأحيان، من وجود استهداف دائم لهذه الهوية من طرف الآخرين، كلهم، وفي الأمكنة والأزمنة، كلها، حتى ولو كنا عاجزين عن تعليل ذلك في حالة معينة. لقد تحول «الخوف على الهوية» إلى علة مزمنة وأدى إلى سقوط في التعصب والانغلاق والرفض المنهجي والمسبق لفكرة وجود مرجعية كونية، مما يعني التسليم، عمليا، بأن المجتمعات المختلفة لا تستطيع التوصل، نهائيا، إلى قواعد مرجعية مشتركة. علاقتنا بهويتنا الإسلامية محكومة بآثار عقدتين: عقدة نقص بسبب الشعور بالاستهداف الدائم والتصرف الدائم كضحية؛ وعقدة استعلاء بسبب الشعور بأن الاستهداف ناجم، في الأصل، عن خوف الآخر مما ستتيحه «العودة الكاملة» إلى الإسلام، بالنسبة إلى المسلمين، من أسباب القوة والرفعة والمناعة، وذلك بسبب كون الإسلام -في نظرنا- هو ترياق لتخليص الجسم المجتمعي من كل السموم والخبائث والأسقام ودواء لكل الأدواء وحل لكل المعضلات والمشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والروحية. هذا يعني، ربما، أن لدينا نظرة مثالية وغير واقعية عن دور الدين في المجتمع؛ فرغم عظمة الدين الإسلامي وغناه، والتفصيل الذي تناولت به الشريعة الإسلامية موضوع المعاملات المدنية بين الأفراد، مثلا، والقابل للتطوير، طبعا، في اتجاه الاستجابة للتغيرات الطارئة، فإنه يظل، في النهاية، مرجعا لتحديد التوجهات الأخلاقية الكبرى (الكليات) المطابقة للفضيلة ولعالمية الدعوة ولمدى تكريمها للإنسان، بجانب القواعد والأحكام المتعلقة بالعبادات. والإسلام، كما يُتداول بيننا، يستعظم الفروقات ويوسع شقة الاختلاف القائم بين المسلمين وغير المسلمين ويركز على سلبية صورة غير المسلم، ويظهر ذلك، مثلا، في الحمولة المفزعة التي نشحن بها لفظ (الكفار)، إذ نكاد نتصور أن لا خَيْرَ يُرجى منهم، في الدنيا، مادام مآلهم سيئا، في الآخرة. ولا يكون تدريس الدين الإسلامي مناسبة للاحتفاء، كما يجب، بقيمة المشترك بين كل البشر، أولا، والمشترك بين الديانات السماوية، ثانيا، والمشترك بين المذاهب الإسلامية، ثالثا. ولهذا نكتفي بالدعاء للمسلمين، ولا نحث، كثيرا، على الحوار بين بني البشر ونشر السلام والمحبة في ربوع الأرض كافة بينما الإسلام، في الأصل، يقوم على الإيمان بكل الكتب السماوية وبالرسل جميعا، وجاء تتويجا لكل ما راكمته الديانات التي سبقته من مبادئ وقيم كبرى. وينطوي الدعاء، في أكثر الأحيان، على استحضار كثيف للنزاع مع الآخر ويحمل دلالات «حربية» من خلال الإشارة المستمرة إلى مكائد (أعداء الإسلام) ومؤامراتهم، وحين نتحدث، في المساجد، عن قضية فلسطين، مثلا، قلما نشير إلى دور أنصار السلام غير المسلمين في نصرة الحق الفلسطيني. وعندما نلح على ضرورة التضامن والاتحاد بين مكونات الأمة الإسلامية، وهذا مشروع وإيجابي، فإننا نعتبر ذلك مندرجا ضمن حاجيات التصدي للمؤامرات المَحُوكة ضدنا أكثر مما نعتبره مندرجا ضمن سياق الجواب الإيجابي على تحديات العولمة وتأمين الوسائل الكفيلة بالمساهمة الفاعلة في التقدم البشري وازدهار وتعزيز الحضارة الإنسانية القائمة. نحن لا نعتبر أننا جزء من هذه الحضارة ولنا مكان فيها، بل نجهد أنفسنا في تعداد عيوبها ونقائصها، رغم الشره الذي نبديه في استهلاك منتجاتها المادية، ونغذي فينا حلم بناء شيء بديل عنها بعد انهيارها «الحتمي»، في نظرنا. الإسلام، الذي يسكن أذهاننا، هو إسلام الغزوات، فكما لو أن الحروب الدينية لم تضع أوزارها، بعد، ولم تطْوِ صفحتها، بعد. نحن نبحث جاهدين عن أية فرصة لإضفاء الصبغة الدينية على أي نزاع دولي حتى ولو لم يكن يعكسها. وننطلق من أن البشر، في جميع الأصقاع، لا تحركهم إلا النوازع الدينية الخالصة وحدها وليس المصالح والرهانات الاقتصادية والاستراتيجية، أساسا. وإذا كان أحد أطراف النزاع مسلما، فإن ذلك يمثل الدليل القاطع على أن هناك مؤامرة ضده باعتباره مسلما، ومن ثمة فهي مؤامرة ضد الإسلام ككل، ونرفض، مسبقا وبشكل قاطع، افتراض صدور الخطإ عن هذا المسلم أيا كانت ملابسات النزاع. الإسلام، كما نتناقله بيننا، نرى فيه دعوة دائمة إلى التزام حالة استنفار قصوى لمواجهة الاعتداءات والأخطار التي تهدده؛ وإذا كان الدفاع عن الذات أمرا مشروعا، تماما، فإن المبالغة في ركوب سبيل «التعبئة والاستنفار» قد تسقطنا في ثلاثة مطبات: - البحث عن أوهى الأسباب لتبرير اللجوء إلى رد الفعل الذي نعتبره دفاعا؛ - تجاوز الحدود المتطلبة للدفاع الشرعي، كأن يستمر رد فعلنا بعد توقف العدوان (مثل استمرار المظاهرات بعد اعتذار الجريدة الدانماركية)، فننتقل من ممارسة حق الدفاع إلى ممارسة «التأديب» والعقاب والانتقام؛ - اعتبار أن الوسائل الوحيدة للدفاع هي الوسائل «السلبية»، فنحن قلما نعتبر أن الإبداع والاجتهاد والمثابرة والاختراع والبناء والإنتاج العلمي هي، أيضا، وسائل لخدمة الإسلام والرفع من شأن المسلمين. إننا، كما خلص إلى ذلك بعض الباحثين، لم نتحرر، بالقدر الكافي ربما، من مخلفات حقبة الاستعمار وحقبة الحروب الصليبية، بينما دار الزمان دورته، وحصلت الكثير من التغيرات التي تجعلنا أمام واقع عولمي جديد، فيه بعض من آثار تلك الحقب، طبعا، ولكنه تجاوز أكثرها. نحن ننظر إلى العولمة، اليوم، على أنها مجرد استعمار غيَّر ثوبه، بينما القضية أعقد من ذلك بكثير. إسلامنا «اليومي» فيه الكثير من مظاهر تسويغ الاستبداد والإيمان بالخرافات والاعتقاد بإمكان حصول المعجزات (كالزعم بتلاوة جنين في بطن أمه لآيات من القرآن الكريم أو الإفتاء باعتماد الرقية في معالجة الصرع...)؛ وفيه تضايق وانزعاج من الحرية، إذ نرى فيها اعتداء على الإسلام كما لو أن الإسلام هش إلى هذه الدرجة. نحن نبدأ بتأسيس قيود الحرية قبل تأسيس الحرية، ونقبل بممارسة العبادات كطقوس فقط بدون تمثل لمعانيها العميقة، ونعتبر أن مشكلة الإسلام هي دائما مع الآخرين ومع من وَالاهُم منا، بينما إذا كانت للإسلام مشكلة، فهي، أولا وقبل كل شيء، مع أبنائه الذين انتهى بهم المطاف إلى الجنوح عن البعد الأصلي للمشروع المحمدي، القائم، أساسا، على تحرير الإنسان، وسقوطهم في أسر ما يمكن أن نسميه «إسلام الضعفاء».