العالم لا يحترم إلا القوي المستند إلى قاعدة شعبية صلبة وعدالة اجتماعية راسخة يعقد وزراء الخارجية العرب اجتماعا طارئا نهاية الأسبوع المقبل من أجل بحث تقارير أمريكية تحدثت عن مقترحات أمريكية إسرائيلية تطالب بربط الملف النووي الإيراني بعملية السلام بين العرب وإسرائيل، الأمر الذي يضع إيران بالقوة في قلب هذه العملية مجددا، ويهمّش دور الدول العربية، معتدلة كانت أو ممانعة. دينيس روس المبعوث الأمريكي بشأن إيران والخليج يقوم حاليا بالعديد من الزيارات المفاجئة لأكثر من عاصمة عربية، حيث التقى العاهل الأردني في عمان، والأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في الرياض، ومن المقرر أن يلتقي الشيخ عبد الله بن زايد وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة. مستر روس كان مبعوث السلام إلى الشرق الأوسط في زمن إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، وأشرف على المفاوضات السورية الإسرائيلية في واي بلانتيشن قرب فلوريدا، كما قام بعملية التنسيق المباشرة للمفاوضات السرية الفلسطينية الإسرائيلية في اوسلو، واتفاق الخليل الأمني، ولقاء واي ريفر بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. اي ان الرجل يعرف ملف السلام جيدا، واللاعبين الأساسيين فيه، ومن غير المستبعد أن يكون هو الأب الفعلي للمقترحات الأمريكيةالجديدة التي تربط بين تخلي إيران عن طموحاتها النووية مقابل مواقف إسرائيلية «مرنة» تعترف بقيام دولة فلسطينية مستقلة. المعلومات القليلة التي تسربت عن الجولة الأخيرة التي قام بها السناتور جورج ميتشل مبعوث السلام الحالي في الشرق الأوسط، أفادت أن الرجل ناقش «أفكار الربط» هذه مع مسؤولين وزعماء عرب التقاهم، كما أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بحث المسألة نفسها مع الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما عندما التقاه مطلع هذا الأسبوع في البيت الأبيض، مما يضيف تأكيدات جديدة على مدى جدية التحرك الأمريكي في هذا الخصوص. مما تقدم يمكن استخلاص مجموعة من النقاط الرئيسية لا بد من أخذها بعين الاعتبار للتعاطي مع هذه المقترحات وتفسير المواقف تجاهها، لأنها ربما تصبح محور تحركات في المنطقة، سلما أو حربا، في الأشهر المقبلة: أولا: العرض الأمريكي بربط المفاعل النووي الإيراني بالدولة الفلسطينية المستقلة يعني أن الإدارة الأمريكيةالجديدة تملك نوايا حقيقية لتتويج إيران زعيمة إقليمية، وحليف أساسي للولايات المتحدةالأمريكية في المنطقة، مما يعني المزيد من التهميش للأنظمة العربية، وربما تحويلها إلى تابع لإيران في المستقبل. ثانيا: أي تفاهم استراتيجي أمريكي إيراني في حال التوصل إليه سيكون على حساب الدول العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص، كما أن أي حرب تندلع بين الطرفين نتيجة تعذر الوصول إلى هذا التفاهم، ستدفع ثمنها الدول العربية أيضا، والسعودية ودول الخليج بالذات، وسينطبق عليها المثل الذي يقول «عندما تتصارع الفيلة يكون العشب هو الضحية»، والأنظمة العربية ليست أعشابا بل طحالب تجرفها التيارات البحرية دون أن يكون لها حول أو قوة. ثالثا: أثبتت إيران بنزوعها إلى تخصيب اليورانيوم، وتطوير برامج نووية طموحة أنها أقدر على فهم العقلية الأمريكية والإسرائيلية من الأنظمة العربية. فالعرب الذين نزعوا إلى السلام وثقافة الاستجداء للغرب، لم يحصدوا غير التجاهل والاحتقار، بدليل أن مبادرة السلام العربية المقدمة منذ ست سنوات تعفنت وهي معروضة على الطاولة دون أن تلقى أي احترام من الغرب. رابعا: الأنظمة العربية، والمعتدلة منها على وجه الخصوص، تجد نفسها في وضع محرج للغاية، وخارج اللعبة تماما، فكيف سيكون موقفها في حال قبول إيران بالعروض الامريكية هذه، خاصة إذا نجحت في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، أي أن إيران الشيعية التي أصبحت تتصدر قائمة العداء بالنسبة إلى العرب المعتدلين، تنجح وهي الفارسية في ما فشل فيه العرب السنة الاقحاح! خامسا: من المفارقة أن الدول العربية، والخليجية منها بالذات، رفضت بازدراء شديد فكرة تقدم بها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وتبناها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بربط انسحاب القوات العراقية من الكويت بانسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الغربية وقطاع غزة، ووضعت الرئيس الفلسطيني وشعبه بأكمله على قوائم العداء السوداء. وها هي تقبل الآن بربط المفاعل النووي الإيراني بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، أو لم تعارضها على الأقل. سادسا: الإدارة الجديدة طورت أفكارها الجديدة هذه دون أي تنسيق مع الأطراف العربية، والزعماء العرب الذين أسدوا خدمات جليلة لأمريكا بتوفير الغطاء لتدمير العراق، والحرب على الإرهاب، كانوا مثل الزوج المخدوع، أي آخر من يعلم، وباتوا يطلبون، مثلما قال المبعوثون الأمريكيون، المزيد من التفاصيل عن هذه المقترحات، ويعبرون عن مخاوفهم من أن تكون هذه المقترحات مجرد مناورات من الحكومة الإسرائيلية. وهكذا، فإن الوضع الرسمي العربي مخجل بكل المقاييس، وباتت الأنظمة العربية، كبيرها وصغيرها، أصحاب الحضارة أو رواد البداوة، دول النفط ودول الماء، كماً مهملاً لا يحترمه أحد رغم الإمكانيات الضخمة، والسبب هو الرهان على السلام، والتخلي كلياً عن أسباب القوة، والرضوخ دون نقاش للإملاءات الغربية، والأمريكية خاصة. إيران بتطوير قدراتها العسكرية، والمضي قدماً في طموحاتها النووية، والرهان على حركات مقاومة في فلسطين ولبنان، واحتضان القضايا العربية، التي تخلى عنها العرب الرسميون أنفسهم، وضعت نفسها في موقع مساوم قوي مع الغرب والشرق، مثلما وضعت أمريكا وإسرائيل في مأزق حرج، فهم يخشون من شن حرب عليها، أي التعامل عسكرياً مع طموحاتها النووية، ولا يستطيعون في الوقت نفسه إغراءها بالحوافز الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. الخوف الرسمي العربي من كون المقترحات الإسرائيلية هذه مجرد مناورة في غير محله، كما انه خوف العاجز المهمّش. فإيران أثبتت أنها الأقدر على فهم الغرب واسرائيل من العرب أنفسهم، نقولها وفي نفوسنا حسرة كبيرة، كما أنها أظهرت خبرة غير مسبوقة في استخدام فنون المناورة بامتياز يحسب لها، عندما كسبت أكثر من ثلاث سنوات من المفاوضات مع أوروبا وأمريكا، بما جعلها على بعد أشهر معدودة من امتلاك كميات اليورانيوم المخصب اللازمة لإنتاج رؤوس نووية، هذا إذا لم تكن قد امتلكتها فعلاً. لا نستطيع أن نقرأ الغيب، ولكن من المستبعد أن تقبل إيران بالمقترحات الأمريكية الإسرائيلية بالربط بين مفاعلها النووي وقيام دولة فلسطينية، لأسباب عدة أبرزها أنها ستستمر في عمليات التخصيب حتى نهايتها، ولا يمكن ان تكون عربية، أكثر من العرب أنفسهم وهم يقابلونها بالعداء، وبعضهم على استعداد للتحالف مع إسرائيل ضدها. وأخيرا تدرك القيادة الإيرانية في قرارة نفسها أنها ستصبح القوة الإقليمية الأعظم في المنطقة، إذا نجحت في الوصول إلى الردع النووي الذي تتطلع إليه، والمسألة مسألة وقت. باختصار شديد العالم لا يحترم إلا القوي المستند إلى قاعدة شعبية صلبة، وعدالة اجتماعية راسخة، وتجربة ديمقراطية متطورة وطموحات قومية وعقائدية مشروعة، أما الضعفاء الذين استمرؤوا الهوان وتبنوا ثقافة المسكنة والاستجداء فليس لهم أي احترام أو مكان في المعادلات العالمية آو الإقليمية.