اختارت تونس، من خلال الاستحقاق الرئاسي الأخير، العودة إلى العهد السابق، الرجوع إلى عهد بورقيبة. ولكن ليس بدون شروط: لا يرغب التونسيون في إعادة بعث الدولة التسلطية التي كانت أيام الحزب الواحد، أيام حكم بورقيبة ثم زين العابدين بن علي من بعده؛ فهي عودة وإن كانت شبه مستحيلة بموجب الدستور الجديد، فإن لهم الحق في أن يتخوفوا منها، ذلك أن الرئيس المنتخب، الباجي قائد السبسي، شغل منصب مدير الأمن الوطني مطلع الستينيات من القرن الماضي، ثم وزيرا للداخلية في ما بعد. وفي هذه المرحلة، أقدم الحزب الاشتراكي الدستوري على إلغاء العمل بالتعددية الحزبية، ليجمع كل القوى تحت زعامة بورقيبة، فرفض الرجل هذا التوجه لينخرط في جبهة الداعين إلى الليبرالية والتعددية. وعاد مرة أخرى بعد 1980 مع الوزير الأول الراحل محمد مزالي الذي سعى إلى الانفتاح السياسي، قبل الانقلاب الأبيض الذي قاده زين العابدين بن علي في 7 نونبر عام 1987. "الربيع العربي" انتقل من تونس إلى المنطقة، إلى مصر وليبيا واليمن فسورية؛ لكنه لم يزهر سوى على أرضها. انتخاب رجل من الحقبتين الماضيتين لقيادة البلاد لا يعني، بالضرورة، إعادة بعث النظام البائد الذي خلف الاستعمار الفرنسي، وكأن شيئا لم يتغير، فمن بين المآلات التي انتهت إليها ثورات "الربيع" في دول أخرى، اختارت تونس صيغة وسطى أبانت عن نضج سياسي وعن عزيمة لا ترضخ، أثبت بها التونسيون إيمانهم وتمسكهم بمبادئ الديمقراطية وتداول الحكم... لم يتخلوا عن مبادئ العلمانية التي أخذوا بها لسنوات طويلة بعد الاستقلال من خلال مناهج التربية والتعليم والتشريعات التي رسخت قيم الحداثة، ومن خلال انتشار التعليم بكل مستوياته وتأسيس نقابات واتحادات، وطبقة وسطى قوية استفادت في نموها من مرحلة الانتعاش الاقتصادي التي شهدتها البلاد في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي؛ بقوا أوفياء لضرورات العصر وأهمية التلاقح الحضاري مع أوربا. اختار الشعب التونسي ألا تقطع ثورته مع الأسس التي وضعها بورقيبة لهياكل دولة تونس العصرية، وما حققته في المجالات الاجتماعية والتربوية والأسرية وحقوق المرأة... ولعل تجربة الفترة الانتقالية كانت الحافز الأهم على التمسك بمبادئ الدولة المدنية بدل مواجهة المجهول أو الفوضى التي تشهدها دول لم تتجاوز بعد ارتدادات العاصفة التي هبت مع ثورات الربيع، بل زادتها تفككا وفوضى وصراعات. والذين يؤاخذون التونسيين على انتخابهم رجلا مسنا يتجاهلون أن ديكتاتورية زين العابدين بن علي والنظام الشمولي والبوليسي الذي أقامه لم تسمح بظهور زعامات شابة، بل حارب جميع أوجه الحياة السياسية ولاحق الإطارات والكيانات الثقافية الحزبية بالسجن والنفي والترهيب والملاحقة. فضّلت تونس بعث "نموذجها القديم" بدل الاستمرار في نظام "الترويكا" التي لم تنفع في شيء سوى أنها كانت غطاء لحكم "حركة النهضة" التي اضطرت إلى هذا التحالف لتخفيف عبء مواجهة باقي التيارات السياسية وهيئات المجتمع المدني والنقابات، واتقاء نار التيار السلفي الذي استعجل اللجوء إلى العنف وأسلوب التصفية الجسدية وتهديد الأمن والاستقرار الأهليين، وبالغ بالتالي في إحراجها أمام الرأي العام. لهذا كان مفهوما أن يختار التونسيون الباجي قائد السبسي على حساب منافسه منصف المرزوقي، فقد رأوا فيه (الرئيس المنتخب) رجل دولة بخلاف منافسه الذي لم يكن ليتبوأ رئاسة الجمهورية في المرحلة الانتقالية لولا حاجة "النهضة" إلى تحالف يمنحها الأغلبية للحكم وتسيير شؤون البلاد، وتولت رئاسة الوزراء التي أصبحت، بموجب الدستور الجديد، تتمتع بصلاحيات واسعة، في صيغة جمعت بين النظامين الرئاسي والبرلماني. وهي في الدور الثاني من المعركة الانتخابية التزمت الحياد علنا، بينما اتجه قطاع واسع من محازبيها نحو التصويت للمرزوقي الذي يحاول جاهدا، الآن، استثمار مئات آلاف الأصوات التي حازها، داعيا إلى تنظيم شعبي تحت اسم "حراك تيار شعب المواطنين"، وهو ما أثار عليه الكثير من الانتقادات التي حذرت من انعكاس تطلعاته وطموحاته على أمن واستقرار البلاد. وتتخوف حركة النهضة من المزيد من التفكك في صفوفها إذا ما تمكن حليفها السابق من استقطاب الناقمين على سياساتها، إضافة إلى متطرفين طالما اتهم بمحاباتهم.. بالطبع، لا يستطيع الرئيس الجديد أن يعيد زمن الدولة الأمنية أو زمن الحزب الواحد، لا يمكنه التنكر للدستور الجديد الذي انتخبه الشعب على أساسه؛ لكنه سيقيد بالتأكيد من نفوذ حركة "نداء تونس" التي حصلت، أيضا، على رئاستي مجلس النواب والحكومة، وهو وعد بأن الحكومة الجديدة ستكون حكومة جامعة؛ ولاقته حركة النهضة ببادرة مماثلة وفازت بموقع النائب الأول لرئاسة مجلس النواب، وهي تتهيأ لأخذ حصتها في الحكومة القادمة. والواضح أن حركة النهضة تبنت منذ سقوط النظام السابق سياسة براغماتية واضحة بعدما عجزت عن الحكم لوحدها رغم أنها كانت الكتلة الكبرى في المجلس التأسيسي، آخذة في الاعتبار مخاوف قطاعات واسعة من المجتمع التونسي، بالقدر الذي خشيت معه أن تضع نفسها في مواجهة شاملة مع هذه القطاعات، كما فعل "إخوان" مصر مثلا؛ وتوفقت في السنتين الماضيتين لاستشعار اتجاه الرياح الإقليمية والدولية.. قرأت ما وقع في مصر وما يقع في ليبيا، وفهمت معاني الرسائل التي بعث بها أكثر من بلد عربي إلى "الإخوان" الذين وضعتهم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على قوائم الإرهاب، فضلا عن إدراك زعامات حركة النهضة، وعلى رأسهم رئيسها راشد الغنوشي، لأهمية مبدإ تداول السلطة والقبول بنتائج الانتخابات حتى يتم قبولهم في إطار اللعبة الدولية. ويكون على الرئيس المنتخب أن يعمل على التخفيف من تشدد التنظيمات اليسارية المحيطة به ويحد من نوايا بعضهم في الانتقام من الإسلاميين وحركة النهضة بالتحديد. على ضوء كل ذلك، يمكن القول إن تونس اجتازت اختبارا صعبا، وقطعت خطوة ديمقراطية لا يقلل من أهميتها وجذريتها اختيار الأغلبية من الناخبين رمزا من المرحلة البورقيبية. لكن عودة تونس إلى فترات الرخاء الاقتصادي والاستقرار والنمو يتطلب وقتا، ومن المؤكد أن خيار التونسيين سيعقبه تحول جوهري في السياسة الخارجية لبلادهم التي ستعود إلى صف محور الاعتدال والدول المحافظة، أي أن السياسة تجاه ليبيا ومصر وسوريا والعلاقة بدول مجلس التعاون الخليجي ستتغير كليا. لم ينكر الرئيس المنتخب أنه ساهم في مد المعارضة الليبية بالسلاح عندما اندلعت الثورة ضد "الجماهيرية"، وكان حينها رئيسا للحكومة الانتقالية بعد سقوط نظام بن علي.. قد يفكر في التدخل في شؤون الجارة الشرقية ضد الميليشيات، لكن مثل هذه الخطوة ستكون محفوفة بالمخاطر في بلاده التي يستقر بها آلاف اللاجئين الليبيين، إضافة إلى استمرار معاناة التونسيين جراء تسرب السلاح الليبي والإرهابيين إلى حدودهم مع ليبيا؛ ستكون السياسة تجاه طرابلس دقيقة وحساسة، لكن توجهات السبسي لن تكون مختلفة كثيرا عن توجهات القاهرة... وسيغير الموقف من أزمة سوريا. وكان قد وعد بفتح مكتب في دمشق. وهنا قد تتطابق مواقفه مع مواقف الرئيس عبد الفتاح السيسي من هذه الأزمة وكثير من القضايا غيرها، وفي مقدمتها العلاقة بقطر وباقي دول الخليج ليكون أقرب إلى مواقف المجلس. ما قد يبدو سهلا في السياسة لن يكون كذلك لتدوير عجلة الاقتصاد. خيار الاستعانة برمز من رموز الحقبة الماضية ربما يشي بالحنين إلى استعادة الرخاء الذي شهدته تونس في بدايات عهد زين العابدين بن علي. لكن الأوضاع اختلفت تماما اليوم. ارتبطت تونس لفترات طويلة بالاقتصاد الحر ومتطلباته، وأصبحت جزءا من اقتصادات دول شمال المتوسط، في مجال السياحة والتجارة الخارجية وغيرها؛ واستفادت، أيضا، من أزمات محيطها. من الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر طوال تسعينات القرن الماضي ومن الحصار الذي فرض على ليبيا القذافي لأكثر من عشر سنين إثر حادثة لوكربي. الأمور اليوم مختلفة كليا.. الأوضاع الاقتصادية للبلاد لا يمكن فصلها عن المشاكل التي تعيشها دول الاتحاد الأوربي، نتيجة تأثيرات الأزمة الاقتصادية منذ أواخر عام 2008، إلا أن أبرز التحديات التي تواجه تونس في المرحلة المقبلة ليس الأزمة الاقتصادية فحسب، بل الملف الأمني وموضوع الإرهاب؛ فالثابت أن أفواجا كبيرة من الشباب التحقت بالمتطرفين الذين يقاتلون تحت علم "داعش" أو "النصرة" في كل من سوريا والعراق؛ كما أن الجهاديين في الداخل لن يتورعوا عن محاولات تهديد الأمن والسلم الأهلي، بل قد يزداد إصرارهم بعد هزيمة المرزوقي الذي كان يؤاخذ على مهادنته لهم. ولا شك في أن عدم الارتياح إلى المستقبل واضطراب الحالة الأمنية لا يساعدان على تنمية النشاط السياحي وحركة الاستثمار الداخلي والخارجي في هذا القطاع الذي يشكل رافدا أساسيا للدخل القومي، كما أن قوانين الهجرة في الدول الأوربية وتباطؤ النمو فيها يقلل فرص الشغل أمام المهاجرين من دول جنوب المتوسط عموما. لقد بدأت حركة "نداء تونس" حملتها الانتخابية الرئاسية من ضريح بورقيبة، فهل كانت تلك وقفة رمزية وداعية لزعيم لم يتسنَّ للتونسيين وداعه كما يليق، أم هي إعلان عن حقبة جديدة تشكل أساسا للجمهورية الثانية بدستورها الجديد الخالي من رواسب الماضي؟ المهم أن تونس تعيش ربيعا جديدا، فهي أبانت منذ انطلاق ثورتها، مجتمعا وأحزابا وتنظيمات مدنية وإسلامية وجيشا، أنها غردت وتغرد خارج السرب! عثمان الريسوني