شركات تعمل خلف الستار، وبضائع تحمل شعار الدولة العبرية، وتنسيق تحت الطاولة في قطاعات اقتصادية مهمة، وأجهزة مخابرات وضعت نصب أعينها تمهيد الطريق لرجال أعمال قادمين من الكيان الصهيوني. تلك أبرز معالم التطبيع الاقتصادي بين المغرب وإسرائيل، الذي يصر المسؤولون الحكوميون على نفيه، في حين تكشفه المعطيات الواردة من جهات رسمية إسرائيلية لا تجد حرجا في ذلك. في الوقت الذي ينفي مسؤولون حكوميون في الرباط وجود أي معاملات تجارية مباشرة مع تل أبيب، ويستدلون على ذلك بنشرات مكتب الصرف، الخالية من أي معاملات مع إسرائيل، فإن المعطيات والإحصائيات الصادرة عن جهات رسمية إسرائيلية، وخاصة المكتب المركزي للإحصاء، تؤكد وجود روابط تجارية خلف الستار، تتقوى سنة بعد أخرى بين المغرب والكيان الصهيوني. المثير أن العلاقات التجارية الخفية بين المغرب وإسرائيل شهدت في السنوات الثلاث الأخيرة تطورا نوعيا وبلغت أوجها، رغم أن الجميع كان يتوقع من حكومة بنكيران «الإسلامية» أن تقف بالمرصاد لهذا التطبيع الاقتصادي. ويصر المسؤولون المغاربة على أن غياب الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية، وانعدام الإطار القانوني المنظم للعلاقات التجارية مع الدولة العبرية أدلة قاطعة على أن الرباط لا تسمح بأي علاقات تجارية مع إسرائيل. انتعاش تجاري في ظل حكومة «إسلامية» عكس التعتيم الرسمي الكبير حول المعاملات التجارية بين المغرب وإسرائيل، فإن التقارير الصادرة عن جهات رسمية في الدولة العبرية تؤكد وجود علاقات تجارية ما فتئت تتقوى سنة بعد أخرى بين البلدين، خاصة على مستوى الصادرات المغربية، التي سجلت انتعاشا مطردا خلال الشهور الأخيرة، نتيجة استفادتها من الوجود المكثف لمقاولات تعمل سرا على تصدير منتجات مصنعة في المغرب نحو إسرائيل. وحسب معطيات صادرة عن المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، فإن حجم واردات الدولة العبرية من المغرب سجل زيادة بنسبة قاربت 29 في المائة، بعدما ارتفعت قيمة الواردات إلى 6 ملايين دولار في الأشهر العشرة الأولى من العام المنصرم، مقابل 4.6 ملايين دولار خلال الفترة نفسها من سنة 2013. ويبدو أن الحصار الذي يفرضه عادة المغاربة، بشكل غير رسمي، على السلع والبضائع الإسرائيلية قد أتى أكله، إذ مقابل الارتفاع النسبي لواردات إسرائيل من المملكة، سجلت الصادرات الإسرائيلية نحو المغرب تراجعا كبيرا بنسبة 84 في المائة في أقل من 12 شهرا. وقد بلغت قيمة ما صدرته إسرائيل نحو المغرب خلال الأشهر العشرة الأولى من 2014 نحو 8 ملايين دولار، مقابل 51.6 مليون دولار في الفترة نفسها من 2013. هذه الطفرة في العلاقات التجارية بين المغرب وإسرائيل جعلت بلادنا تصنف سادس زبون إفريقي للكيان الصهيوني، وراء كل من جنوب إفريقيا، التي استوردت من الدولة العبرية خلال الأشهر الثمانية الأولى من السنة الماضية ما مجموعه 305.9 ملايين دولار، ونيجيريا بنحو 128 مليون دولار، ومصر بنحو 73.3 مليون دولار، وبوتسوانا بما يربو عن 69.3 مليون دولار، ثم السنغال بنحو 59.2 مليون دولار. ورغم أن هذه الإحصائيات صادرة عن الدوائر الحكومية الإسرائيلية، فإن عبد القادر اعمارة ينفي وجود أي معاملات تجارية بين المغرب وإسرائيل، حيث سبق له أن أكد حينما كان وزيرا للتجارة والصناعة والتكنولوجيات الحديثة أن نشرات مكتب الصرف، المتضمنة لجميع العمليات التجارية للمغرب مع الخارج، خالية من أي أرقام تخص المبادلات المغربية مع إسرائيل، وأن غياب الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية المغربية وانعدام الإطار القانوني المنظم للعلاقات التجارية مع الدولة العبرية «يؤكد أن السلطات العمومية لا تسمح للتسويق للبضائع الإسرائيلية». وكشف عمارة أن بعض المصدرين الإسرائيليين «يقومون بخلق قنوات تجارية غير مباشرة» وصفها ب»المعقدة»، وقال إن «هناك من يقدم على إحداث شركات مزدوجة في التراب الأوروبي من أجل طمس المصدر الأصلي للسلع والحصول على شهادة المنشأ الأوروبي، وبالتالي النفاذ بطريقة ملتوية إلى السوق المغربية». الفلاحة والسياحة على رأس قطاعات التطبيع انتعاش المعاملات التجارية بين المغرب وإسرائيل يفرض تطور قطاعات وشركات استثمارية بعينها، حيث تكشف الإحصائيات الرسمية الإسرائيلية أن الفلاحة والسياحة تأتيان على رأس القطاعات المستفيدة من التطبيع الاقتصادي غير الرسمي. وتعمل أبرز الشركات الإسرائيلية الناشطة في المغرب في المجال الفلاحي، من خلال ضيعات لإنتاج التمور والخضر والفواكه. إذ كان المرصد المغربي لمناهضة التطبيع قد كشف عن وجود ضيعات إسرائيلية لإنتاج أحد أصناف التمور المعروفة باسم «المجهول» بمنطقة الرشيدية، مما يفسر غزوها للسوق المغربية، وأكد بأن تلك الضيعات تعود إلى مواطنين إسرائيليين، وليس إلى يهود من أصل مغربي. ويشمل التنسيق الفلاحي بين المغرب وإسرائيل تجهيز ضيعات فلاحية مغربية كبرى بمعدات تكنولوجية، أبرزها تقنيات الري والأسمدة والبذور. وقد كانت وزارة الفلاحة المغربية تنشر، حتى وقت قريب، قائمة البذور المسموح باستيرادها إلى المغرب، وضمنها 70 نوعا من البذور الإسرائيلية، على رأسها بذور الطماطم، التي تتميز بجودتها وارتفاع ثمنها. ويمتد التنسيق الزراعي بين البلدين، أيضا، إلى استقبال شركات إسرائيلية في المغرب قصد نقل تجارب فلاحية إلى إسرائيل، مثل زراعة شجرة الأركان. كما يشكل مجال السقي دعامة الاستثمار الفلاحي الإسرائيلي في المغرب، حيث تشرف على جزء كبير من هذا الاستثمار شركة يوجد مقرها بالمنطقة الصناعية عين السبع بالدار البيضاء. ويستفيد القطاع السياحي من التقارب غير الرسمي بين المغرب والدولة العبرية، حيث بلغ عدد السياح المغاربة الذين زاروا إسرائيل خلال السنوات الست الماضية 6440 شخصا. وقد بلغت السياحة المغربية إلى إسرائيل ذروتها خلال العام الماضي، إذ وصل عدد السياح المغاربة 2239 سائحا. هذه الأرقام، التي كشفت عنها قناة إخبارية إسرائيلية، أشارت إلى أن عدد السياح المغاربة إلى إسرائيل عرف ارتفاعا كبيرا بمعدل ثلاثة أضعاف مقارنة بعام 2009، الذي عرف زيارة 658 سائحا مغربيا فقط لإسرائيل. وأكدت القناة أن السياحة في الكيان الإسرائيلي شهدت خلال الستة أعوام الأخيرة انتعاشا ملحوظا وارتفاعا كبيرا في عدد السياح القادمين من دول إسلامية وعربية لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. وتقول الإحصاءات الإسرائيلية إن عدد من زاروا إسرائيل سرا منذ عام 2009 إلى الآن يفوق 250 ألف سائح مسلم وعربي، جاء معظمهم بدوافع دينية، فيما جاء بعضهم بدوافع ترتيب أعمال تجارية أو حتى لمجرد التسوق. وتعمل المخابرات الإسرائيلية بشكل قوي على دعم التبادل السياحي بين المغرب وإسرائيل، حيث تعهد جهاز «الشاباك»، مؤخرا، بالحفاظ على سرية هويات الأثرياء المغاربة، الذين يزورون إسرائيل للسياحة والاستجمام، كعدم نشر بياناتهم الشخصية وعدم ختم جوازات سفرهم عند المعابر الإسرائيلية، خاصة في ظل وجود معطيات لدى الأجهزة الأمنية في إسرائيل تشير إلى عودة إقبال المغاربة على الوجهة الإسرائيلية بعد حدوث تراجع في الفترة الأخيرة، التي تزامنت مع العدوان على قطاع غزة. وكشفت مديرية السكان والهجرة الإسرائيلية أن 2239 سائحا مغربيا زاروا إسرائيل خلال العشرة شهور الأولى من سنة 2014، وخضعت طلباتهم لدخول إسرائيل للدراسة من طرف الجهاز الاستخباراتي «الشاباك» لدواع أمنية، بسبب قدومهم من بلد لا تربطه علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كما هو الشأن بالنسبة لعدد من البلدان العربية. مخابرات اقتصادية تمهد الطريق للبضائع الإسرائيلية تصريحات الوزير اعمارة حول الطرق الملتوية، التي يستعملها بعض رجال الأعمال الإسرائيليين لدخول السوق المغربية تعكس جزءا من الحقيقة، فالعثور على مقرات الشركات الإسرائيلية في المغرب، أو التي تتعامل تجاريا مع شركات مغربية صعب للغاية، بل هو ضرب من الخيال، لعدة أسباب، أولها، طابع السرية الذي يميز عمل هذه الشركات. وثانيها، أن عددا من هذه الشركات تدخل المغرب باعتبارها شركات أوربية أو أمريكية، وهو أمر يصرف الأنظار عنها. كما أن شركات إسرائيلية تعمد إلى تأسيس مقرات لها في دول أوربية، خاصة في إسبانيا، وتحديدا في منطقة الأندلس، للتعامل تجاريا مع مقاولات مغربية. وتلعب المخابرات الإسرائيلية دورا كبيرا في تسهيل اختراق هذه الشركات لأسواق حصينة مثل المغرب، بل إن الخبراء يصنفونها كأول جهاز مخابراتي يوظف ما يسمى ب»الذكاء الاقتصادي»، الذي يمهد الطريق لرجال الأعمال الإسرائيليين لبسط نفوذهم على العالم. وفي هذا الإطار، يجمع الباحثون على أن الاستخبارات المغربية مدعوة إلى خلق جهاز لدعم استراتيجية الدولة في مجال الذكاء الاقتصادي، انطلاقا من أن العلاقة بين ميدان الاستخبارات وميدان المنافسة الاقتصادية والصناعية يعد موضوعا مشابها لفترة ما بعد الحرب الباردة، حيث إن الخطر العسكري المباشر أصبح يتراجع ليترك المجال واسعا لمخاطر جديدة تعد غير مباشرة، من بينها الخطر ضد المصالح الاقتصادية، الذي أصبح يبرز بصفة خاصة، بما أن تحرير أنشطة العديد من القطاعات وتطوير التبادل الحر جعلا معظم الدول معرضة للتحركات الاقتصادية العالمية، التي ساهمت في تواصل الاستراتيجيات العسكرية الدبلوماسية متمثلة في وسائل اقتصادية وتجارية. ومن بين الأمثلة الصارخة في هذا المجال، لجوء إسبانيا في منتصف ماي من سنة 2013 إلى تأسيس جهاز جديد يطلق عليه اسم «الاستخبارات الاقتصادية الوطنية»، من مهامه الدفاع عن المصالح الاقتصادية والتجارية للدولة في الخارج، ومساعدة الشركات والبلاد للخروج من الأزمة، والقيام بعمليات تجسس واسعة على البلدان المنافسة، ومن بينها المغرب، الذي تتابع إسبانيا تحركاته بتوجس على جميع المستويات.