منذ نهاية الحرب الباردة وحلول عصر العولمة أصبح «الإرهاب» ثيمة أساسية في مكونات بنية النظام السياسي الدولي، وبات الإرهاب دينامية عنيفة ملازمة لعنف العولمة، ومنذ تدشين الولاياتالمتحدةالأمريكية لسياسات «الحرب على الإرهاب» عقب هجمات الحادي عشر من شتنبر، تنامت الظاهرة الإرهابوية في العالم، وأصبحت استراتيجيات الحرب على الإرهاب معممة في سائر أطراف الكون، لكن الأسئلة الأساسية هي: لماذا لا تفلح السياسات الدولية في القضاء على الإرهاب، ولماذا تنفرد المنطقة العربية بالابتلاء بالترهيب، وهل هناك ماهية موضوعية لمفهوم الإرهاب؟ يبدو لي أن السياسات الدولية المتعلقة بمكافحة الإرهاب التي تقودها الولاياتالمتحدة تقوم على تبني سياسة تستند إلى مفهوم «ديمومة الإرهاب»، وهو مصطلح يعني التخلص من الآثار السلبية للعنف السياسي الضار بالمصالح الأمريكية والاحتفاظ بالعنف النافع لضمان نفوذها وهيمنتها وسيطرتها، ولذلك ترفض الولاياتالمتحدة وضع تعريف محدد لمفهوم «الإرهاب» وتتبنى تعريفات عديدة للمفهوم، وبهذا فإن «الإرهاب» يتحول إلى مفهوم ذاتي غير موضوعي ومفروض وغير مفترض، فسلطة القوة الانتقائية هي من تحدد هوية الإرهابي وكينونته، ولذلك فإن الولاياتالمتحدة تسند حق تصنيف الأشخاص والحركات والدول إلى وحدة أنساق الإرهاب التابعة لوزارة الخارجية، تبعا لمفهوم المصالح القومية الأمريكية. في هذا السياق، فإن موضوعة «الإرهاب» وتصنيف «الإرهابيين» في المنطقة العربية تؤمن فائدة حيوية للمصالح الأمريكية، وفي مقدمتها حماية مصادر وإمدادات النفط وضمان أمن وتفوق إسرائيل، وبهذا فإن كافة حركات المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية، على اختلاف إيديولوجياتها الفكرية المناهضة للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية، توضع على قوائم «الإرهاب»، كما أن كافة الجماعات التي تهدد الأنظمة السلطوية النفطية تواجه ذات الوصم والوسم بالإرهاب. يدرك سدنة سياسات «الحرب على الإرهاب» أن ظاهرة «الإرهاب» تقوم على ثلاثة أركان أساسية؛ وهي: السياسات الإمبريالية والأنظمة السلطوية والألعاب الهوياتية. وإذا نظرنا إلى الممارسات الأمريكية في المنطقة فهي تقوم على نزعة توسعية إمبريالية عبر الاحتلالات والتدخلات العسكرية المباشرة، وتدعم الأنظمة السلطوية وتسندها بقوتها المادية والرمزية، وترعى الانقسامات الهوياتية الإثنية العرقية والدينية المذهبية وتؤجج الصراعات الطائفية. سياسات «ديمومة الإرهاب» بدت جلية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 والذي قام على التلاعب بالهويات الطائفية بطرائق عديدة، فسياسات الهوية الطائفية كانت أحد أهم خطوط استراتيجية المحافظين الجدد لتفتيت المجتمع وتفكيك الدولة لضمان عمليات الهيمنة والسيطرة، وهي السياسة الأثيرة الحاكمة للرؤية الاستشراقية والثقافوية للاستعمار التقليدي التاريخي البريطاني والفرنسي في المنطقة. في سياق تفكيك الدولة والمجتمع العراقي، عمدت الولاياتالمتحدة إلى بناء العملية السياسية على أسس هوياتية مزدوجة عبر تأكيد الهويات العرقية والإثنية وانقساماتها بين عرب وكرد بصورة أساسية، وترسيخ الاختلافات الهوياتية الدينية والمذهبية بين السنة والشيعة بشكل رئيسي، وفي الوقت الذي مكنت فيه الولاياتالمتحدة الكرد من إدارة إقليم شبه مستقل، عملت على تهميش السنة كإجراء عقابي لانخراطهم في النظام السابق ومعارضتهم للاحتلال، أما الشيعة فقد تمت مكافأتهم وتمكينهم من الحكم بعد مساندة مرجعياتهم الدينية للاحتلال. وبعد مرور عشر سنوات على الاحتلال، أصبح العراق محورا رئيسيا في المنافسة الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدةوإيران، فقد بذلت الولاياتالمتحدة جهودا كبيرة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، بما في ذلك استخدام مكانتها كقوة محتلة ومصدر رئيسي للمساعدات في العراق؛ ومع ذلك، فإن احتواء النفوذ الإيراني لم يكن الهدف الرئيس لأمريكا في العراق، بل خلق ديمقراطية مستقرة يمكنها هزيمة ما تبقى من العناصر المتطرفة والمتمردة، والدفاع ضد التهديدات الخارجية، ودعم قيام مجتمع مدني قادر، وإبراز الصداقة القوية المستقرة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج. استراتيجية الحرب على الإرهاب لاتزال تستند إلى المعالجة العسكرية الأمنية الصلبة، وتكتفي بالحديث عن الأسباب والشروط المنتجة للإرهاب دون معالجتها، فقد عادت الأنظمة السلطوية المسندة أمريكيا إلى الشرق الأوسط بصورة أكثر قمعا، وتنامت الصراعات الطائفية بشكل حاد، وأصبحت الديمقراطية والحرية والعدالة بعيدة المنال، الأمر الذي استثمرته الجهادية العالمية بالتدليل على صواب نهجها العنيف بالتغيير، وبات خطابها الراديكالي أكثر جاذبية للأجيال الشابة في المنطقة، كما طورت استراتيجياتها ونوعت من تكتيكاتها القتالية. وبعد مرور أكثر من أحد عشر عاما على الاحتلال الأمريكي للعراق، تحولت المنطقة عموما والعراقوسوريا خصوصا إلى محور رئيسي في المنافسة الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدةوإيران، فقد بذلت الولاياتالمتحدة جهودا كبيرة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، ومع ذلك فإن احتواء النفوذ الإيراني لم يكن الهدف الرئيس لأمريكا في العراق، بل خلق ديمقراطية موالية مستقرة يمكنها هزيمة ما تبقى من العناصر المتطرفة والمتمردة، والدفاع ضد التهديدات الخارجية، ودعم قيام مجتمع مدني قادر، وإبراز الصداقة القوية المستقرة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج، لكن التطورات الأخيرة وبروز تنظيم الدولة الإسلامية، حملت الولاياتالمتحدة على الإقرار بإيران كقوة إقليمية نافذة، واختفى الحديث عن كونها محورا للشر ودولة راعية للإرهاب، فحسب مراسلات «أوباما خامنئي»، فإن للطرفين مصالح مشتركة في الحرب على «إرهاب» الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي يزعج الحلفاء من السلطويين العرب، خصوصا وأن المراسلات تشير إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي. الحالة العراقية نموذجية تماما في فهم سياسة «ديمومة حرب الإرهاب» التي تتبناها الولاياتالمتحدة، وذلك من خلال تثبيت الهيمنة الأمريكية، والإصرار على المضي في سياسة التلاعب الهوياتي، والالتزام بدعم النظام السلطوي، فعلى الرغم من سياسات المالكي الطائفية المسندة إيرانيا، فإنّ الولاياتالمتحدة وافقت، خلال زيارته لواشنطن مطلع نونبر 2013، على بيع حكومته كميات كبيرة من الأسلحة المتطوّرة، بما فيها طائرات الاستطلاع وصواريخ هلفاير، بذريعة محاربة «الإرهاب» وعدم السماح بانتقال الفوضى إلى الدول المجاورة، وعندما تحولت الاحتجاجات السنية السلمية اليائسة في العراق إلى مسلحة، حيث بدأت في الرمادي ثم توجت بالسيطرة على الفلوجة، وجرى تأسيس مجالس عسكرية للعشائر والسكان عموما، تعامل المالكي معها بوصفها إرهابا تقوده القاعدة و»داعش»، وساندته في هذا الولاياتالمتحدة ثم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي أعرب في 11 يناير 2014 عن دعمه لجهد الحكومة العراقية في الأنبار ضد ما أسماه العنف والإرهاب، وأدان هجمات داعش دون الإشارة إلى الفاعلين الشعبيين الآخرين، ولا إلى المطالب العادلة لأهالي هذه المناطق. عندما سقطت الموصل في يونيو 2013 بيد مسلحي السنة، وفي مقدمتهم تنظيم الدولة، قامت الولاياتالمتحدة بالتنسيق مع إيران باستبدال حيدر العبادي بالمالكي، وتم تقاسم الأدوار وفق معادلة «للأمريكيين الجو وللإيرانيين الأرض»، بإشراف الجنرالين جون آلن وقاسم سليماني، الذي قام بإعادة نشر ميليشياته العراقية كقوة إسناد برّي للضربات الجويّة الأمريكية، أما السنة في العراق فقد أصبحوا أكثر انكشافا ولم تعد أحاديث التهميش والإقصاء سوى ملهاة في سوق «الإرهاب»، إذ عليهم أن يثبتوا براءتهم من هوياتهم الإرهابوية للدخول في أفق الإمبريالية والسلطوية والطائفية، فالمقاربة الأمريكيةالإيرانية المشتركة باتت أكثر فجاجة ووقاحة في قصر جذور الإرهاب في الفكر السُّني. تبدو إيران المستفيد الأكبر من السياسات الأمريكية في «الحرب على الإرهاب»، التي تعني ديمومته، فقد تراجعت قدرتها على شن حروب خارجية، إذ تخلصت إيران بفضل سياسات ديمومة الحرب على الإرهاب من نظامين معاديين لسياساتها الإقليمية الطموحة، الأول في أفغانستان طالبان والثاني في عراق صدام، أما في سوريا فقد أثبتت إيران قدرتها على التدخل لحماية حليفها السوري في محور «الممانعة والمقاومة» بشكل مباشر عن طريق الحرس الثوري وفيلق القدس وعن طريق أدواتها الشيعية الناعمة والصلبة ممثلة في حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية كلواء الفضل أبو العباس، والتي لا توصم بالإرهاب، بل باتت شريكا في محاربته باعتباره سنيّا. خلاصة الأمر أن سياسات «ديمومة الإرهاب» التي تتبناها الولاياتالمتحدة، يقوم على سياسة براغماتية فجة تقوم على ثلاثة أركان أساسية، وهي: السياسات الإمبريالية والأنظمة السلطوية والألعاب الهوياتية، فالممارسات الأمريكية في المنطقة تقوم على نزعة توسعية إمبريالية عبر الاحتلالات والتدخلات العسكرية المباشرة، وتدعم الأنظمة السلطوية وتسندها بقوتها المادية والرمزية، وترعى الانقسامات الهوياتية الإثنية العرقية والدينية المذهبية وتؤجج الصراعات الطائفية، فاستراتيجية الإمبراطورية الأمريكية في «الحرب على الإرهاب» تستند إلى المعالجة العسكرية الأمنية، وتتغاضى عن الأسباب والشروط والظروف المنتجة للإرهاب، وفي مقدمتها انسداد أفق التغيير الديمقراطي السلمي، والنهج السلطوي الاستبدادي، والإفقار والتهميش والبطالة، والإقصاء والاستبعاد والاستئصال، والهيمنة والتسلط والإخضاع، فلازالت الإمبراطورية تتحالف مع ضمان استقرار مصالحها، ولا تحفل بالديمقراطية والحقوق والحريات والأقليات في المنطقة إلا كأدوات استعمالية للتحكم والسيطرة. حسن أبو هنيّة