كان المناضل النقابي في الماضي رمزا للتفاني في العمل والإبداع والكفاءة واليوم نلاحظ أن بعض مظاهر الرداءة المهنية تبحث لها عن حماية نقابية أو مظلة سياسية الأصل أن حلول فاتح ماي هو مناسبة لاستجلاء حصيلة النضال العمالي ومساءلة أحوال العمل النقابي وأداء الأجهزة والهيئات النقابية. ولقد كان وجود منظمة نقابية فاعلة ومستقلة عن الدولة في بداية الاستقلال أحد المكاسب الرئيسية لتلك المرحلة وإحدى ثمرات تغلغل الفكر اليساري والوطني في صفوف الشغيلة المغربية وأحد تعبيرات النزعة الهادفة إلى تحديث بنيات تأطير المجتمع المغربي وتعويض البنيات التقليدية العتيقة، كالطوائف المهنية والزوايا وأمناء الحرف. وهكذا، فظهور الهياكل النقابية كان يندرج ضمن مشروع شامل لإنشاء أدوات تحديث بنية المجتمع وبنية الدولة وتحريرهما من قيود التبعية الاستعمارية. وظل الخطاب النقابي لأقوى المركزيات النقابية تأثيرا وحضورا في الساحة، يصف النظام السياسي المغربي بالرجعي والفردي. واليوم وبعد مضي أكثر من خمسة عقود على الاستقلال، فإن المتأمل لمشروع قانون النقابات، المنشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 21 أبريل 2009 ع 9154، يكتشف أن السلطة الرسمية هي التي تبادر إلى اقتراح جملة من المقتضيات التي تروم من خلال بعض وجوهها تحديث بنية نقابية افترسها التقليد وبهت دورها التحديثي، وتجاوزتها أحيانا، وفي جوانب محددة، الحداثة التقنية للدولة والمجتمع، وغمرتها نزعات محافظة تستمرىء الركود والماضي، وترفض الذهاب بعيدا في بلورة وتجذير الاختيار التحديثي والديمقراطي. وبالرغم من وجود رموز نقابية نزيهة ومناضلة، تؤلمها بعض مظاهر التردي الذي آل إليه المصير النقابي، فإنها، على ما يظهر، لا تبذل مجهودا كبيرا لتغيير الواقع وتصحيح العوج ومعالجة الأعطاب، بل تتصرف أحيانا بمنطق من تجاوزته الأحداث ولم يعد قادرا على لعب دور حاسم لوقف تدهور الشأن النقابي ببلادنا. هناك على الأقل خمسة مشاكل تشد بخناق الجسم النقابي المغربي وتحد من حركته وتأثيره وتسيء إلى صورته ومكانته الاعتبارية: - المشكل الأول هو تعطل بعض آليات الدمقرطة والتداول، فلقد أصبح، مثلا، استمرار تربع الكاتب العام على عرش الاتحاد المغربي للشغل منذ تأسيسه مصدر تندر وتفكه في مجالس المواطنين الذين يرشحون الرجل للتسجيل في موسوعة جينيس، نظرا إلى طول إقامته في منصبه النقابي، وهناك وفود تمثل النقابات في الحوار الاجتماعي يشكل المتقاعدون العنصر الغالب في تركيبتها. كما يلاحظ أن بعض القيادات النقابية لجأت إلى وسائل غير نظامية للتخلص من خصومها وتصفية حسابات سياسية مع نشطاء يخالفون تلك القيادات الرأي السياسي، فوجدوا أنفسهم خارج النقابة بفعل عمليات تأسيس غير مستوفية الشروط، لمكاتب نقابية على مقاس القادة. وقد اختار أولئك النشطاء في النهاية إنشاء هياكل نقابية جديدة وعدم عرض حالاتهم على القضاء، رغم أن هذا الأخير أصبح ملجأ العديد من نشطاء العمل السياسي الذين يطالبون بإنصافهم باعتبارهم ضحايا خروقات في التدبير الحزبي. وبناء عليه، فقد نص مشروع قانون النقابات الجديد، مثلا، على ضرورة تنظيم وتسيير النقابة بناء على مبادئ ديمقراطية، وعلى منع العضو الذي أحيل على التقاعد بسبب بلوغ السن القانونية من الاحتفاظ بعضوية النقابة لأكثر من 5 سنوات بعد التقاعد ومن الحق في أن يكون ناخبا أو مرشحا في انتخاب الهيئات التقريرية للنقابة خلال مدة الخمس سنوات المذكورة (م10). كما نص المشروع على منع كل نقابة لا تعقد مؤتمرها الوطني خلال أربع سنوات من الاستفادة من الدعم العمومي السنوي، إلى أن تسوي وضعها (م38) وعلى ضرورة تنصيص النظام الأساسي للنقابة على طريقة اختيار مرشحي النقابة لمختلف الاستشارات الانتخابية والأجهزة المكلفة بذلك، وعلى ضرورة تكوين هيئات للتحكيم في الخلافات (م12). - المشكل الثاني هو سوء التدبير المالي، ويلاحظ في هذا الصدد أن المركزيات النقابية لا تعلن على العموم بيانات عن سير ماليتها وكشوفات عن ممتلكات قادتها، ولا تطلع الهيئات المدنية المغربية المختصة على تفاصيل تدبيرها المالي. وقد انتشرت الكثير من الأحاديث بين الناس عن وجود فضائح مالية، وعن ظهور طبقة من أغنياء (الريع النقابي)، لكن ذلك إلى حد الساعة لا يوثق بمستندات حاسمة. وقد كانت تحليلات اليسار في مرحلة نقد ما سمي آنذاك ب«الجهاز البورصوي» قد كشفت عن طبيعة وأدوار نخبة نقابية تشكلت من المنقطعين والمسيرين «الدائمين»، وراكمت ثروات مهمة يشتبه في أن لها علاقة بإشرافها على المؤسسات الاجتماعية للعمال. لكن بعد تأسيس «البدائل» النقابية، لم تواكب أدبيات اليسار تطورات المالية النقابية والأوضاع المادية للقادة. ورغم أن المادة 424 من مدونة الشغل قد نصت على مسطرة مراقبة الدولة لطريقة صرف الإعانات العمومية الممنوحة للنقابات، فإن مقتضيات هذه المادة لم يتم تفعيلها. ولذلك نجد أن مشروع القانون الجديد للنقابات يفرض استحداث جهاز داخلي مكلف بمراقبة مالية النقابة (م12) وإثبات صرف الدعم العمومي وفق الغايات التي مُنح من أجلها (م32) وإمساك محاسبة (م33) والاستعانة بخدمات خبير محاسب (م34) ومراقبة المجلس الأعلى للحسابات لمالية النقابات (م36) واعتبار كل استخدام كلي أو جزئي للدعم الممنوح من طرف الدولة لأغراض غير تلك التي مُنح من أجلها بمثابة اختلاس لمال عام والمعاقبة عليه بهذه الصفة (م37). المشكل الثالث هو البلقنة والتشتت النقابي؛ فالبرغم من سيطرة فكرة «الوحدة النقابية» على خطاب اليسار المغربي ردحا من الزمن، والانطلاق من أن تعدد الكيانات الحزبية لا يجب أن يواكبه بالضرورة تعدد مماثل للكيانات النقابية، فإن تطور الخارطة النقابية قد أدى إلى بروز مركزيات نقابية صغيرة وضعيفة التأثير، إما بسبب معاناة قادتها من غياب الديمقراطية الداخلية في المركزيات الأم التي انتموا إليها في البداية، أو بسبب رغبتهم في استمرار استفادتهم من امتيازات فعلية للقيادة النقابية، أو بسبب رغبة الأحزاب التي ينتمون إليها في الظهور بمظهر الأحزاب الكبيرة التي لها القدرة على إنشاء نقابات تابعة لها وإخفاء حقيقة حجمها في الساحة، أو بسبب اجتماع أكثر من عامل من العوامل المذكورة. ومع ذلك، فإن هناك أحزابا يسارية أخرى لم تختر نهج إنشاء مركزية نقابية، واعتبرت أن مثل هذه المبادرة يتعين أن يسبقها تشاور وحوار وتريث، حتى لا تُشتت الجهود وتُهدر الطاقة اليسارية بدون طائل، وحتى لا يتعدى عدد المركزيات النقابية الممثلة لقيم اليسار واحدة أو اثنتين على أساس أن تحكمها آليات تدبير التعدد بطريقة ديمقراطية منفتحة ومنطق التعايش والتواضع ونبذ التعصب والهيمنة؛ علما بأن التشنج الذي تتعامل به بعض القيادات النقابية ليس مرده سيادة الشوفينية الحزبية والتبعية لأجهزة الحزب الذي ينتمي إليه أفراد تلك القيادات، بقدرما يفيض عن رغبة لوبي القيادات المذكورة في الحفاظ على مواقعه ومصالحه داخل النقابة وداخل الحزب معا، ورفضه تقبل كل نتائج الاختبار الديمقراطي، وتصرفه كحزب قائم بذاته، لكنه غير مُعلن. وقد واجه مشروع قانون النقابات ظاهرة البلقنة النقابية، بقصر الدعم العمومي على «النقابات الأكثر تمثيلا» فقط، وتحديد معيار الحصول على %6 على الأقل من مجموع عدد مندوبي الأجراء المنتخبين و6 % على الأقل من عدد ممثلي الموظفين في حظيرة اللجن الإدارية متساوية الأعضاء، كأساس لتمييز تلك النقابات وطنيا عن غيرها (م26 م30). المشكل الرابع هو نشوء نظام امتيازي للنقابيين أحيانا. إن النقابة تضمن حماية منخرطيها من تعسف وشطط الجهة المُشغلة، ولكنها قد تتحول، في سياق سياسي معين، إلى أداة لمنح النقابيين امتيازات غير مبررة وغير متماشية مع القانون ومع مبدأ المساواة، سواء في ما بين المواطنين بعضهم بعضا أو بين أجراء المؤسسة بعضهم بعضا. والامتيازات المقصودة هي على نوعين: امتيازات خاصة بالنخبة النقابية، وهي الأظهر، وامتيازات خاصة بكل المنخرطين في نقابة معينة. وفي هذا الصدد، تلقت إحدى النقابات مؤخرا طلبا بانخراط جماعي لموظفي إدارة معينة دفعة واحدة بسبب فرض هذه الإدارة على موظفيها نظام بطاقة الدخول والخروج الإلكترونية لمراقبة حضورهم يوميا. لقد اعتبر الموظفون هذا الإجراء نوعا من التعسف واعتداء على مكسب قائم دون أن يتساءلوا عن مدى مشروعيته. والمهم في مثل هذه الحالة هو أن نفهم لماذا تصور الموظفون أن النقابة، مبدئيا، ستقف في وجه نظام بطاقة الدخول والخروج. لا شك أن هذا التصور لديهم تأثر بالشكل الذي أصبحوا ينظرون به إلى النقابة. فهذه الأخيرة، في نظرهم، غدت أحرص على استقطاب الأعضاء ومسايرة مطالبهم والاستسلام للواقع ولضغط التنافس النقابي بصرف النظر عن نتائج ذلك على المردودية والواجب. كان المناضل النقابي، في الماضي، رمزا للكد والاجتهاد والحضور والتفاني في العمل والإبداع والكفاءة؛ واليوم، نلاحظ أن بعض مظاهر الرداءة المهنية تبحث لها عن حماية نقابية ومظلة سياسية. ويكفي هنا أن نشير إلى استفادة البعض من وضعية «انقطاع فعلي» في إدارات معينة بدون أن يكون مقيدا في جدول المنقطعين الرسميين لنقابته، فاتسعت مساحة غياباته وتقلص حجم مردوده المهني، بدون سند قانوني، وبدعوى انشغالاته النقابية. إن الحق، مثلا، في تغيب ممثلي الأجراء والموظفين، لا يمكن أن يتحول إلى تغيب دائم، وبدون احترام للمساطر، وإلا أصبحنا أمام خرق المبدأ الذي تذكر به الفقرة الثانية من المادة 3 من مشروع القانون الجديد للنقابات والتي جاء فيها: «لا يترتب عن الانتماء النقابي أو عدم الانتماء إلى نقابة ما أي أثر في مجال توظيف وتشغيل وترقية الأجراء أو في ما يتعلق بوضعيتهم المهنية والإدارية بصفة عامة». المشكل الخامس هو ضعف الكفاءة والاقتدار النقابي. فإذا كانت مدونة الشغل تنص على أن من مهام النقابات «إنشاء وتدبير مراكز للأبحاث والدراسات والتكوين» و«إصدار نشرات تعنى بشؤون المهنة»، فإننا نسجل تراجع دور النقابات في مجال اقتراح الحلول المقنعة تقنيا، وضمور وظيفتها في البحث والدراسة والتحليل وتكوين الأطر الجيدة التي تتملك الخبرة المطلوبة والاطلاع الدقيق على الملفات. فأمام المعارف التقنية المتوفرة لممثلي أرباب العمل وممثلي الدولة، لا تعتمد النقابات، بوجه عام، إلا على ممثلين ذوي رصيد معرفي محدود، بينما كانت النقابات في الماضي تتعهد الكفاءات حتى في مجال الإبداع الأدبي وتنظم مسابقات للمبدعين. كما أن القرارات النقابية لا يحظى تحضيرها بالقدر اللازم من التمحيص والمخاض الجماعي وإعداد السيناريوهات المختلفة والدراسة الوافية والعميقة والحوار الناضج. إن النقابات المغربية تعاني اليوم من حصول شرخ بينها وبين المثقفين والأطر الأكاديمية، إلا أننا لا يمكن أن نحملها وحدها المسؤولية في ذلك. نحن في حاجة إلى نقابات فاعلة، تساهم في التأسيس للانتقال الديمقراطي، وتخدم القيم الإنسانية النبيلة للحركة النقابية التقدمية. ومن أجل إنقاذ القضية النقابية وتدشين نهضة نقابية جديدة بالمغرب، يتعين ربما البدء بمعالجة المشكلات الخمس المذكورة سابقا..