قد يتبادر إلى الذهن عند ورود كلمة «أعراب» قول الله تعالى (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله سميع عليم)، وبالتالي فهي صفة غير محمودة، وهي صفة تاريخية خاصة بعصر الرسالة، جغرافية خاصة بالصحراء وبالعرب، البدو الرحل، البعيدين عن المدن، والمستوطنين أعماق الصحاري. لكن هذه الصفة «الأعراب» تتجاوز المعنى الجغرافي، والذي يتحدد في سكان الكفور البعيدة، إلى الانفتاح على حمولات دلالية تخترق الزمن والمكان، ليتصف بها كل من شاكل الأعراب في سلوكهم، وشابههم في خلالهم وسجاياهم، وأتى من الأفعال ما كان ديدن الأعراب وطريقتهم. و«الأعراب» ورد ذكرهم في القرآن الكريم، في ثلاثة مواضع، في سورة التوبة وفي سورة الفتح وفي سورة الحجرات، ومن أوصافهم في القرآن قلة العلم والتفقه في الدين، وسطحية المعرفة، والجفاء في الأخلاق، وخشونة الأذواق وإهمال اللياقة. فأما وصفهم بقلة الفقه في الدين، فلقد ورد في سورة الحجرات، قال الله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ). فالأعراب لم يستطيعوا إدراك الفرق بين الإسلام والإيمان، بل اعتقدوا أنه بمجرد نطقهم الشهادتين، وأدائهم الصلوات، أصبحوا مؤمنين بل وكاملي الإيمان، ويفسر هذا ما ورد في أسباب نزول هذه الآية الكريمة وما بعدها، أن أعرابا من بني أسد بني خزيمة، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، في سنة جدبة (جفاف) وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات (القاذورات والأوساخ) وأغلوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا الصدقة، وجعلوا يمنون عليه. فأنزل الله فيهم هذه الآية. فالأعراب لم يستطيعوا إدراك حقيقة الإسلام والإيمان كما لا يستطيع كثير من الناس فهم ذلك اليوم فالإسلام شعائر ظاهرة، وعبادات بارزة، وأعمال وأقوال حسية، شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان. وأما الإيمان فهو التصديق الجازم المطابق الذي لا يداخله ريب، ولا تخالطه الشكوك، بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. ثم انفعال القلب تأثرا بهذه الأركان الستة لفعل الأوامر، واجتناب المحرمات، والصدق مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا المعنى الدقيق الواضح عزب عن فهم الأعراب، فظنوا أن الشعائر الظاهرة هي الدين كله، وهذا غير صحيح فالإسلام ظاهر والإيمان باطن، ولهذا لا يستغرب ممن حظه من الدين أداء الشعائر الظاهرة، أن يقع في المحرمات، ويرتكب النواهي والمحظورات، لماذا؟ لأنه «أعرابي «يكتفي من الدين بالشعائر الظاهرة ولما يدخل الإيمان وهو التصديق الجازم قلبه، ليكون محفزا له للخير، ومانعا له من الشر. و«الأعراب» جفاة، لا يبالون بالآخرين، فالأعرابي أو الأعرابية، يصلي مع الناس، لكنه لا يهتم بآداب المسجد، ولا يراعي له حرمة، فتراه أو تراها رافعا صوته أو صوتها في المسجد، وإذا خاصم أحدا لا يحترم الشرع والدين والأخلاق، بل ينسلخ من سربال الإسلام الظاهري، ويستعيد جفاءه وخشونته وصلابة وجهه وسلاطة لسانه، ولا يرى عيبا في ذلك ولا تناقضا مع كونه من المسلمين. ويجهل الأعرابي أن الذوق الجمالي في العبادة مطلوب، فقد ورد في القرآن الكريم (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)القرآن الكريم سورة الأعراف الآية31 وأن السلوك الحسن هو قرين للإيمان بل هو عنوان الإيمان كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكمل المومنين إيمانا أحسنهم خلق.» ولهذا عقب الآية السابقة في سورة الحجرات، قال الله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أولئك هم الصادقون) سورة الحجرات الآية 15. فالإيمان عمل القلب وانفعاله وتصديقه، وهو الذي يؤسس لقيم، ومبادئ، تثمر أخلاقا وسلوكا، غايته طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الناس أجمعين. وهي ثابتة وراسخة، تتجاوز النظرة الأعرابية الضيقة، التي تتأسس على الأنانية والفردية، وتتوسل بكل وسيلة لبلوغ مرادها المادي، بما في ذلك التخريب والإفساد ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الأعراب، مدح الله صنيعهم، وأثنى على كريم سلوكهم، فقال:(ومن الأعراب من يؤمن بالله ورسوله ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم )سورة التوبة الآية99. العياشي قبوسي