بين «البراغماتية» التي دعا إليها وزير الداخلية في التعامل مع شركات التدبير المفوض وحديث ادريس جطو رئيس المجلس الأعلى للحسابات عن هدر هذه التجربة للمال العام، ضاعت ملايير الدراهم من أموال المغاربة ليتضح أن الدولة برهانها على هذه الصيغة أخطأت العنوان، وجعلت ميزانيات الجماعات المحلية رهينة لشركات تأخذ ولا تعطي. حاليا هناك إقرار رسمي بفشل تجربة التدبير المفوض، وأيضا هناك حالة من التيه في البحث عن بديل، بعد أن تهاوت الأسس التي تم اعتمادها من أجل فرض هذا النمط لتدبير قطاعات مهمة، والتي لخصها القانون رقم 54.05 في البحث عن الجودة في الخدمات المقدمة للمواطنين، لإخفاء اعتراف رسمي بفشل السياسات العمومية لتدبير الشأن المحلي في القضايا الأكثر ارتباطا بالمغاربة (الماء، الكهرباء، التطهير السائل..). ورغم أن وزارة الداخلية رفضت وبشدة ربط فشل هذا النمط التدبيري بوجود شبهات تلاعبات وتواطؤ وفساد، بعد أن انزعج محمد حصاد أمام البرلمان من توزيع الاتهامات بتحكم الرشوى والعمولات في الصفقات، إلا أن محمد الغلوسي رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام يؤكد بأن فشل هذا الأسلوب مرتبط بعدة عوامل ضمنها سيادة أسلوب الفساد في العلاقة مع الشركات التي تتولى مهمة التدبير المفوض، ناهيك عن غياب الشفافية في العقود المنظمة للعلاقة بين هذه الشركات والإدارة العمومية. وقال الغلوسي إن هذه الأخيرة غالبا ما ترضخ لشروط الشركات المجحفة دون «أن ننسى الغموض والالتباس الذي يلف الجوانب المالية وما يترتب عن ذلك من اختلالات تصل في بعض الأحيان إلى جرائم يعاقب عليها القانون الجنائي وهو ما توقف عنده تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009». ورصد الغلوسي أن الخدمات التي تقدمها هذه الشركات والتي غالبا ما تكون لها «علاقات أخطبوطية مع مراكز النفوذ والمصالح لا ترقى إلى المستوى المطلوب بل إنها لا تستجيب حتى للمواصفات والشروط المضمنة بعقد التفويض»، وهو واقع يصعب تصحيحه، بعد أن تحول في ظل الوضع الحالي لعجين يختلط فيها المنتخبون بالمسؤولين عن هذه الشركات التي نجحت في تكوين لوبيات قوية قادرة على الدفاع عن مصالحها التي تتعارض حتما مع مصالح المواطنين. وزير الداخلية الذي أقر بفشل التدبير المفوض في عدد من المدن، كما هو شأن مدن الرباط وطنجة وتطوان، حيث أقدمت الجماعات المحلية على استرجاع تدبير الماء الصالح للشرب والكهرباء لم يجد حلا سوى الدعوة لتفعيل «البراغماتية» في التعامل مع هذه الشركات وإعادة النظر في العقود التي لم تحترم، وهي دعوة اعتبرها الغلوسي «تهربا من مناقشة واقع التدبير المفوض الذي تستحوذ عليه شركات تتمتع بالحظوة في غياب قواعد واضحة لتدبير المرافق العمومية بواسطة هذه الآلية حديثة العهد ولا يفتح المجال للمنافسة الحقيقية بين مختلف الشركات التي ترغب في إبرام عقود التدبير المفوض». كما تستبطن دعوة وزير الداخلية، وفق الغلوسي، عجزا واضحا عن إعادة التوازن إلى عقد التدبير المفوض وهو العقد الذي يتيح غالبا لهذه الشركات إمكانيات مهمة «لابتزاز المواطنين عن طريق الزيادة في أسعار خدماتها دون حسيب أو رقيب، وهو ما يجعل مجال التدبير المفوض حقلا خصبا للفساد ولاقتصاد الريع دون اكتراث للمصلحة العامة، وهو ما أدى إلى احتجاجات متكررة بالعديد من المدن نتيجة سياسات هذه الشركات». حاليا ستتجه الأنظار إلى التقرير الذي يستعد رئيس المجلس الأعلى للحسابات لكشف تفاصيله بعد افتحاص تجربة التدبير المفوض في مجال النظافة والتطهير، وفي هذا السياق قال الغلوسي إنه حان الوقت لكي تتدخل الجهات الرقابية خاصة المجلس الأعلى للحسابات للقيام بدوره في هذا الإطار وإحالة تقريره على القضاء للقطع مع الإفلات من العقاب والتصدي للفساد ونهب المال العام تحت غطاء التدبير المفوض». وقال إن واقع هذا التدبير يفرض على الدولة التدخل للقيام بوظائفها وعدم التنصل من مسؤوليتها اعتبارا لكون البلدان النامية كالمغرب لازالت في حاجة إلى دور الدولة المتدخلة والدولة الاجتماعية بدلا من الدولة المحايدة، وأن لا تترك المجالات لشركات يسيل لعابها على الأرباح الخيالية على حساب مصالح المواطنين ودون تقديم خدمات عصرية وذات جودة. ولاشك أن تقرير جطو الجديد حول التدبير المفوض سيشكل حرجا كبيرا للمنتخبين وللدولة، كما سيشكل فرصة لإعادة النظر في هذا التدبير الذي فشل في أشكاله المتعددة، واستفاد من غياب الحكامة والإرادة في تقويم الاختلالات الخطيرة التي راكمها وهو ما جعل بعض الجماعات الترابية تسعى حسب الغلوسي إلى إنشاء شركات للتنمية المحلية لم تستطع بدورها أن تلبي حاجيات المواطنين في جودة الخدمات، وهو ما يفسر ما تشهد دورات المجالس المنتخبة من «صراعات أثناء إعداد والتصويت على كناش التحملات سعيا لإرضاء هذه الشركات لغايات معروفة».