قوافل ظمأى من النساء الحزينات المثقلات بالفقر والعوز و المنهكات من الأعمال المضنية المجانية, وطلبات لا تنتهي من صغارهن وأزواج بلا حاضر ولا مستقبل.. سرب من النسوة بحزن غامر في نظرتهن وأنين جارح في أصواتهن يحملن آلامهن وأحلامهن ويغادرن بيوتهن وأبناءهن نحو حقول إسبانيا من أجل حفنة من الدراهم, تبكي قلوبهن قبل أن تدمع عيونهن, توحدهن المحنة والحاجة وأمل شاحب في تحسين أوضاع أسرهن المعوزة. أحسست بالضيق حينما شاهدت ربورطاجا بأخبار القناة الثانية يستعرض بفخر واعتزاز هجرة 15.600 إمرأة نحو حقول «الفراولة» الإسبانية كما سمّوها للعمل هناك ثلاتة أو أربعة أشهر تحت شمس الصيف الملتهبة، بحثا عن لقمة عصية ودراهم تزيل تعبهن وتخفف عنهن وطأة الغربة والإجهاد والانحناء.. نساء مكافحات أجبرهن واقعهن المر على اختيار عمل أشد مرارة وجفاء, تتكالب فيه قسوة الغربة بصعوبة الطقس وما يتطلبه الاشتغال بالحقول من جهد وصبر تحمل وصلابة وتحد. إنهن «رجالات» هذا الوطن, نساؤه الشريفات,المضحيات,العفيفات,الصابرات..لم يخترن الترف السهل ولم يبعن أجسادهن في سوق النخاسة, فضلن شقاء العمل وطعم الحزن ومواجهة الزمن بكبرياء وبإيمان فلاح حتى وإن كان الثمن الانحناء في حقول الجيران. المثير في التعليق المصاحب لهجرة «الجني» الموسمية أن سفر هذا العدد الهائل من النسوة المغلوبات على أمرهن اعتُبر إنجازا كبيرا ومكسبا هاما و«سوق شغل» ستحسن من وضعية الأسر المستفيذة, من خلال «عملية» ستتم في ظروف جيدة في الضفتين معا, لكن الواقع الحقيقي جاء على لسان نساء لا يمتهن الكذب, يتحدثن بعفوية ويصرحن دون تحفظ عما يشعرن به من حزن وغبن وما ينتظرهن من تعب و ألم.. «تمارة أو صافي, خلّينا ديورنا وولادنا كيبكيوا» هكذا جاء تعليق إحدى السيدات المليء بالحسرة والأنين المكتوم.. وحدها هذه السيدة وزميلاتها يعرفن معنى أن تترك أم ابنها أربعة أشهر.. كل من سينظر إلى عيون هؤلاء النسوة سيقرأ اشتياقهن لصغارهن, وكل من سيلمس أيديهن سيلمح آثار الشقاء منحوتة على أصابعهن, وكل من شاهدهن منحنيات يجنين التوت في الحقول من شروق الشمس إلى غروبها سينحني لا محالة تقديرا لجسد. وكل من اقتسم معهن هناك حيث يعشن كأس شاي أو طاجينا بطعم الوطن, سيقدر ثمن الحنين ومعنى أن تغترب أم وتترك خلفها بيتها من أجل لقمة شريفة, وربما سيطرح أسئلة قلقة عن نساء لا حيلة لهن تتحملن الأذى ولا تحفلن به, تتقاسمن الغربة كما تتقاسم الأخوات أشغال البيت, تأكلن بلا شهية, تبكين بصمت, يتعذر عليهن النوم لأنهن كلما أغمضن جفونهن تستيقظ أوجاعهن.. ضيفات أطلن الإقامة في الغربة لأشهر كي يرسمن البسمة على شفاه أقربائهن ويدخلن الفرحة إلى بيوتهن, لا يطفئ شوقهن ووحدتهن إلا صوت قادم من الضفة الأخرى عبر خيوط الهاتف يخفف شيئا من شوقهن ولهفتهن.. نساء «الجني» يجنين الكثير من الهم و الظلم والمرض والانكسار, لا تعود الحياة لتدب في عروقهن إلا بعودتهن سالمات إلى أعشاشهن. الحزن ندركه بالإحساس و لا نخطؤه أبدا, وآلام هؤلاء النسوة لا تحتاج للسؤال ولا تنتظر الجواب لأنه مرسوم على وجوههن وأجسادهن وقلوبهن مهما حاولن جاهدات إخفاءه بابتسامة مكابرة, ومهما حاول نبأ صحفي عابر أن يقنعنا بأن موسم الهجرة إلى الشمال فرصة من ذهب لجني المال. فأن تترك بيتك مكرها كأن تفارق سريرا دافئا, أو حبيبا غائبا أو قريبا ضائعا أو ابنا مغتربا. ستكُف نساؤنا المهاجرات عن الحياة في انتظار موسم العودة حيث تستقبلهن أذرع أقربائهن.. في انتظار موعد آخر للرحيل ترافقهن الحسرة وكاميرا تائهة تتربص بآلامهن.. لا تأبه لدموعهن الجافة ولا لكرامتهن المخدوشة.