عندما استقل المغرب رسميا سنة 1956، صدّق المغاربة حكاية الاستقلال وصاروا يحتفلون بذلك كل عام؛ ومنذ تلك السنة إلى اليوم، تم إنفاق آلاف الملايير في حفلات أعياد الاستقلال، لكن شيئا فشيئا بدأ الناس يكتشفون أن الاستقلال مجرد خرافة، لأن بلادا لايزال عددٌ من مدنها وجزرها ومناطقها محتلة لا ينبغي أبدا أن تصف نفسها بكونها بلادا مستقلة. هناك أشياء يعرفها الجميع، وهي أن المغرب بلد مبتور الأطراف، وأن مدينتين كاملتين، هما سبتة ومليلية، لاتزالان تحت الاحتلال الإسباني، ومع ذلك نسمي أنفسنا مغربا مستقلا، وفي كل عام ينتظر الناس عطلة عيد يسمى عيد الاستقلال، وتسود الاحتفالات من أقصى المغرب إلى أقصاه، وتنظم سفاراتنا وقنصلياتنا في الخارج حفلات استقبال باذخة، فيها الكثير من العصير وكعب الغزال، بما فيها سفارتنا وقنصلياتنا في إسبانيا، البلد الذي لازال يحتلنا. وهناك أشياء يعرفها بعض المغاربة فقط، وهي أن المغرب بلد بلا جزر، لأن المغرب تنازل عن كثير من جزره البحرية للإسبان وفق معاهدة وقعتها الدولة المغربية رسميا، لهذا السبب رأينا ما حصل عندما نزل بضعة عساكر مغاربة فوق جزيرة «تورة» (ليلى)، فانتفضت إسبانيا وكأن المغرب أرسل جنوده لاحتلال مدريد، ويا ليت مسؤولينا ومثقفينا ومؤرخينا يمتلكون الشجاعة لكي يكشفوا للمغاربة عن طبيعة تلك المعاهدات التي تجعلنا نطأطئ الرأس نكوصا وخجلا أمام بلد مثل إسبانيا التي تحتل صخورا وشواطئ قرب أنوفنا. لكن، هناك أشياء أخرى يعرفها عدد قليل جدا من المغاربة، وهي أن الاحتلال لا يطال سبتة ومليلية والجزر المغربية فقط، بل يطال أيضا مناطق يقال لنا إنها مغربية، والذين يحتلونها ليسوا أجانب أو إسبانا، بل هم مغاربة.. تقريبا مثلنا، وأصعب أنواع الاحتلال أن يحتل مغربي منطقة مغربية ويمنع باقي المواطنين المغاربة من دخولها. هذا هو الواقع الذي يسود هذه الأيام في المناطق الشاطئية الممتدة بين تطوانوسبتة، حيث انتقل نظام «الأبارتهايد» من جنوب إفريقيا إلى شمال المغرب، وصار المواطن ممنوعا من دخول شواطئ لا يحتلها الإسبان، بل يحتلها مستعمرون مغاربة، بكل ما في الكلمة من معنى.. وقسوة أيضا. هذه الشواطئ الموجودة في مناطق مثل مارينا وريستينغا وكابو نيغرو وغيرها، تشبه تلك الجزر الموجودة على حافة الشواطئ المغربية، هي مغربية لكنها ليست مغربية. المغاربة الذين يزورون تلك الشواطئ خلال هذا الصيف، أكيد أنهم يرون مدينة سبتة على مرمى حجر، وهي مدينة يصفها كثيرون بكونها محتلة، لكنهم لو دخلوا المدينة فلا أحد سيمنعهم من ولوج أي شاطئ من شواطئها ولا أي مكان من أماكنها، ففي سبتة كلها لا توجد إقامات فارهة يقف على أبوابها حراس غلاظ شداد يمنعون الناس حتى من الاقتراب منها؛ وفي سبتة كلها، من غير المعقول أن تجد شاطئا بحريا ممنوعا على العموم.. ولو حدث ذلك، فإن الحكومة المركزية في مدريد ستستقيل عن بكرة أبيها، وقد يحدث ما هو أسوأ من ذلك. لكن في المغرب، يختلف الوضع تماما.. تحاول الدخول إلى شاطئ مغربي فيسألك الحارس بلهجة احتقارية مقززة: انت فين غادي؟ تحاول أن تفهم السؤال لأنه يبدو غريبا، فيبادرك الحارس بعبارة صادمة: ممنوع.. سير لشي جهة أخرى.. يا سلام.. أسوأ ما في المواطن المغربي أنه يعتقد أن بإمكانه أن يطبق الدستور ويلج أي مكان يريد ولوجه في مملكته السعيدة جدا، وعندما تصدمه عبارة «فين غادي» فإنه يعتقد أن أذنه لم تسمع جيدا ويطلب إعادة السؤال. في الشواطئ الممتدة بين تطوانوسبتة يكمن المغرب الحقيقي.. المغرب العميق جدا.. فيلات فارهة لأناس لا أحد يعرف من أين أتوا بكل ذلك المال... يخوت فارهة لخواص وأخرى موضوعة رهن إشارة من يؤدي بضعة ملايين لكي يمضي ليلة مجنونة في عرض البحر تحت شعار «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال المغربي الدرويش»... أناس يصرفون مالا كثيرا هم أنفسهم لا يعرفون كيف حصلوا عليه، لذلك لا يعرفون كيف ينفقونه... تجار حشيش يسكنون جنبا إلى جنب مع سياسيين وقادة حزبيين فتمتزج رائحة كتامة برائحة سرقة المال العام، لذلك تصبح البحار بلون خاص.. لون الخصخصة... في تلك الشواطئ تحدث أشياء تمزج بين الخيال والواقع، مثلما حدث قبل أيام حين اندلعت مواجهة مسلحة بين تجار مخدرات في عرض البحر ولعلع الرصاص وتصادمت اليخوت والدراجات المائية وغرق من غرق ونجا من نجا وهرب من هرب. على أية حال، لا تيأسوا أيها المغاربة.. فمغربكم قد يصبح مستقلا في يوم ما.. وإذا استطعتم تحرير شواطئكم التي يحتلها مغاربة مثلكم، فقد تستطيعون يوما ما تحرير المدن والجزر التي تحتلها إسبانيا.