يروي محمد أحمد باهي بدايات الإعداد لأشهر انتفاضة ستعرفها الصحراء ومرحلة التهييء لذلك بقوله: «اتفقنا أن ينتقل محمد بصير رفقة شقيقه مولاي علي إلى الساقية الحمراء لدراسة الوضع الاجتماعي والاطلاع على أحوال السكان ومدى استعداد الشباب الصحراوي للعمل الوطني، وكنا قبل ذلك على اتصال بعدد من الشباب الثوري المتحمس الذي راسلنا بعضهم كتابة أو بواسطة أشخاص كانوا يزورون المناطق الشمالية من المغرب، وكان من بين الشبان الذين كتبنا عنهم السيد موسى ولد بصير وإبراهيم ولد موسى وحسن الداودي والحاج خطري ولد سعيد الجماني وغيرهم، واتفقنا على تشكيل تنظيم سري يحمل اسم الحركة الطليعية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، وقد تحاشينا إطلاق اسم الحزب أو الجبهة أو الاتحاد لأنها كانت أسماء معروفة داخل المغرب وخارجه وكان المخطط المتفق عليه تشكيل خلايا من خمسة أفراد لا يعرف بعضها بعضا، وعلى رأس كل خلية شخص إلى أن نصل إلى القيادة، وهذا التنظيم هو الذي يعرف بالتنظيم «عنقود العنب»، وهو الذي استعملته معظم الحركات الثورية السرية في العالم خاصة في الفيتنام وأمريكا الجنوبية والجزائر، وهذا العمل كان يتطلب السرية التامة ولا يمكن إطلاع أحد عليه أبدا، وكان محمد بصير مستعدا للهجرة والالتحاق بالصحراء وانطلاق العمل حسب الاتفاق على أن تظل اتصالاتنا متواصلة بواسطة الرسائل التي يحملها مبعوثون نثق فيهم، وتسلم الرسائل يدا بيد سواء في الصحراء أو في الدارالبيضاء، وهكذا سافر محمد بصير رفقة شقيقه مولاي علي من البيضاء في اتجاه طانطان ولم نكن نعتقد أن المسافر أو المتوجه إلى الصحراء يحتاج إلى رخصة أو جواز سفر، فقد كانت صحراؤنا تضم معظم أفراد عائلاتنا غير أن الإسبان وضعوا الحواجز أمام كل متوجه من الشمال في اتجاه الجنوب أو العكس. استقر محمد بصير وأخوه بطانطان، وهناك ربط الاتصال بأول شخص ينضم إلى حركة الطليعة هو الأخ عبد الخالق بن طانطان، الذي كان يتنقل من طانطان حاملا رسائل محمد بصير إلى الدارالبيضاء، وقد علمت فيما بعد أنه كان من بين المعتقلين الصحراويين في سجن أكدز بنواحي زاكورة وكان شقيقه مبارك مديرا لسجن الرشيد في تندوف» محمد أحمد باهي، محمد بصير أقدم سجين في العالم ص 35 ، 36 . سيبعث محمد بصير بأول رسالة إلى محمد أحمد باهي بعد وصوله إلى مدينة طانطان، ينقلها هذا الأخير في كتابه، وفيها يؤكد محمد بصير أن رحلته تلك هي زيارته الأولى للصحراء، وفي نفس الرسالة وصف بصير الحفاوة التي استقبله بها أهل الصحراء وحماسهم لأفكاره، وهو ما اعتبره أهم حافز وتشجيع على المضي قدما في ما يخطط له، يقول محمد بصير في رسالته لمحمد أحمد باهي «عزيزي... تركتك آسفا وفارقتك والدموع في عيني، ولا أدري كيف ستكون الأيام القادمة بالنسبة إلي وأنا بعيد عنك، إنني أراجع في كل دقيقة مذكرتي وأقرأ ما خططته بيدك عليها، إن حبك للصحراء هو دافعي في هذه الرحلة، تمنيت لو كنت معي، لو كنا جميعا لكان الحال أحسن، وصلت إلى طانطان مع الأخ مولاي اعلي ورغم أنها المرة الأولى التي أزور فيها الصحراء فقد أحسست أنني أعرف كل كبيرة وصغيرة هنا، أعرف كل الناس وكل البيوت ولم أشعر بأي غربة أو انعزال، حدثت كثيرا من الإخوان هنا عن هدف رحلتي إلى الصحراء ورحبوا بالفكرة وتحمسوا كثيرا، إن هذا أول تشجيع لي، ولقد بدأت تتضح أمامي سبل العمل وطرقه، سوف نغادر طانطان مع إحدى القوافل الصحراوية بحول الله يوم الخميس القادم أرجو أن تكتب إلي، إنني في أشد الحاجة إلى كتابتك ورسائلك وآرائك، المخلص بصير»، محمد أحمد باهي، آخر معارك التحرير في الصحراء المغربية ص 53. سيمكث محمد بصير بمدينة طانطان عدة أسابيع لإيجاد طريقة تمكنه من الانتقال للسمارة، خاصة أمام المتاريس والحواجز التي أقامها المستعمر في الصحراء وحدّه من حرية الحركة والتنقل، «وبعد محاولات دامت عدة أسابيع استطاع محمد بصير الانتقال إلى السمارة حيث استقر في بيت شقيقه مولاي علي والتقى بأبناء عمومته هناك. وكانت السمارة مقر قيادة حركة الطليعة لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، وفي السمارة كان أبناء العمومة وسكان المدينة من أبناء القبائل هناك أكثر رحمة وحنانا وتعاونا من أبناء عمومتهم في الرباطوالدارالبيضاء، وهنا يكون قد صدق عليهم المنهج الخلدوني الذي يقول بأن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، فقد تجند أبناء العائلة من الشيوخ والشبان لمساعدته على الاستقرار والحصول على الأوراق الإدارية وشهادات الإقامة بضماناتهم وتعهدهم أمام الإدارة الاسبانية» محمد بصير أقدم سجين في العالم ص 36 كانت الرسائل التي يبعثها محمد بصير، أو التي يرد بها محمد أحمد باهي، حسب علمهما، في أيد أمينة، لكن ما كان يغيب عن الرفيقين الشابين أن تلك الرسائل كانت تصل أولا لرجال الجنرال أوفقير الذي كان يراقب حينها كل صغيرة وكبيرة ويتابع حركة الشابين القادمين من الشرق وغير المنتميين لليسار كباقي أغلب شبان تلك المرحلة، وهو ما يكشف عنه فيما بعد باهي قائلا: «وكتب بصير أول رسالة إلى الدارالبيضاء بعد استقراره بالسمارة ووصلت الرسالة إلى طان طان ثم تحولت إلى الدارالبيضاء وتأكدنا أن العملية تسير وفق ما خططنا له بهدوء وروية، وتوالت رسائله التي كانت أجهزة المخابرات المغربية تتعقبها وتتصيدها في الطريق وتراقبها قبل وصولها وهو ما لم نتمكن من اكتشافه إلا بعد فوات الأوان» محمد بصير أقدم سجين في العالم ص 36 . كانت الخطة مدروسة جيدا حيث «اختار محمد بصير بعد استقراره أن يسكن بيتا من بيوت العائلة ويجعله شبه مدرسة لمحاربة الأمية وتحفيظ القرآن الكريم، وكانت تلك أفضل تغطية تنطلي على الإدارة الاسبانية، وقد كان أول شخص يفاتحه محمد بصير في موضوع حركة الطليعة هو ابن عمه مويسا ولد البصير، الذي كان شديد الحماس للعمل الوطني ومقاومة الاستعمار، وكثيرا ما كتبنا عنه في جريدة الأساس قبل منعها، وشكل محمد بصير الخلية الأولى من خمسة أفراد كانوا جميعا من أفراد العائلة لتوفر عنصر الثقة فيهم أكثر من غيرهم، وهم مويسا وسالم وسيدي ومحمود وعزيز، وكلهم ينتمون إلى عائلة آل بصير، وكان على كل واحد من الخمسة أن يشكل خلية جديدة من خمسة أفراد لا يعرف بعضهم بعضا» محمد بصير أقدم سجين في العالم ص 36 .