« هناك من الرجال من يُعجبوننا عندما نُبحر معهم في صفحات التاريخ الدموي العميق، ونرى النفس البشرية على حقيقتها عندما تتحوْل إلى وحش لا يشبع من سفك الدماء، ولا يغمض جفنه قبل التمثيل بالآخرين...، نؤْسَر بحكاياهم لحظات وصولهم إلى السلطة أو التربّص بخصومهم قبل أن تقشّعر أجسادنا لحظات، نبدأ معها بتلاوة تفاصيل عملياتهم وكيفيات تنفيذها، حيث الدم والقتل أرقى أساليبهم، لكننا نتردّد عن الإعجاب بهم عندما نعي جبروتهم وسفكهم الدماء بمُسميات العدالة أو الضمير الحي، دون رحمة وشفقة ودون الشعور بالرأفة أو الخجل ودون الإحساس بإمكانية وصولهم إلى المصير المؤلم الذي يُساق إليه الآخرون، وهناك إعجاب آخر بحواء ذات الأنامل الناعمة والإبتسامة المُشرقة والقدود الميّاسة التي تتحوْل سريعا من خانة الآدمية إلى خانة الوحشية والدموية، وتتحوْل فيها من مخلوق وديع لطيف إلى ثعبان شرير يلدغ كل من يقترب منه، وقد استقرت فوق قبر معد لدفن أحدهم...إنهم رجال ونساء عبروا بوابة الشر وأصبحوا أشهر السفاحين في التاريخ».. «...وضع نصب عيْنيه الهيمنة على العالم ولم يكترث بعدد القتلى بل قاد حربا خاطفة على ما يقارب ربع سكان الأرض وأباد معظم شعوبها، وطافت قصص الرعب عن سيد الحرب المنغولي العالم وتحولت إلى أسطورة، وفي العصور الوسطي لم يكن أحد اكتسب شهرة مثل هذا الشقي البدوي والأمّي الذي فتح مدن ومناطق وحوْلها إلى إمبراطورية بضعف حجم إمبراطوريتي روما والاسكندر المقدوني بصعود دموي خلّف وراءه أكوام من الجثث تمتد من الصين حتى الشرق الأوسط، حتى أطلق عليه الكثيرون لقب أعظم مزوري دوافع القتل في التاريخ، بعد أن صمّم على تحقيق ما يعتقده أنه قدّر إليه من الله وحيث الرؤية التي أوحت إليه بأنه هو الشخص الذي سوف يقوم بتغيير العالم ...». فبين قسوة المناخ والرياح الشديدة التي تهبّ في معظم أيام السنة وتنقلب أحياناً إلى أعاصير تُتلف كل عوامل العيش والحياة والاستقرار....، وبين درجات الحرارة المُتقلبة حيث الجبال المتوّجة بالثلج والصحراء ولد تيموجين أو جنكيزان (حوالي العام 1162) وسط أبناء القبائل التي سكنت هضبة منغوليا الآسيوية الشاسعة، التي تمتد من أطراف الصين إلى أواسط آسيا وتشمل في جغرافيتها عددا من خطوط العرض والطول... هنا ووسط هذا كله ولد تيموجين وتفتحّت عُيونه في مناخ الهضبة المنغولية كابن للزعيم «يسوغاي خان» في ظلّ قبائل مشحوْنة بالغضب والثأر من الآخر بسبب هاجس السيادة على البادية، وحيث القرية ليست سوى مجموعة مُتراصّة من الخيام التي تسمى ب»يورتا»، تلك الخيام التي تطبع أصحابها بطابع القسوة والخشونة وكثرة التنقل والترحال وتنعكس بمظاهرها على حياة التتار الدينية ومعتقداتهم الوثنية التي انفردوا بها دون غيرهم من الجماعات وآمنوا بقوى الشرّ من الجنْ والشياطين وقوة الجبال والأنهار والشمس والقمر رغم وجود بعض القبائل التي كانت تدين بالنصرانية، وهي قبائل سرعان ما أخذت تتقاتل فيما بينها وأدت إلى مصرع والده وبالتالي نفيه هو وأسرته ( نتيجة رفض القبيلة طاعته لصغر سنة) لأربع سنوات يسكن الجبال في حياة من الكرّ والفر مع مرتزقة القبائل المُعادية حتى تسنى (وبفضل حنكته وحبه للتنظيم) من تكوين جيش عظيم استطاع من خلاله العودة إلى قبيلته والدفاع عنها بعد التخلص من شقيقه الأكبر (حاول السيطرة على جنكيزخان والحدّ من سطوته) وهو دون العشرين من عمره وقتله دون رحمة أو شفقة وتكون هذه الجريمة بمثابة الافتتاحية لمهنة الذبح التي بدأها جنكيزخان بهدف تشكيل إمبراطورية العالم الكبرى. وبما أن حبّ التنظيم قد رافق تيموجين منذ الصغر فقد بدأ يسعى إلى تكوين جيشه الجرار والعظيم من خلال توحيده للقبائل المغولية التي تحققت له عام 1206 واختير قائدا للمغول من طرف مجلس القبائل الذي منحوه لقب جنكيز خان أي إمبراطور العالم، وانطلق رفقة هذا اللقب الجديد إلى تحقيق حلمه بإنشاء إمبراطورية المغول، وبدأ معها بغزو إمبراطورية الصين العظيمة ومملكة (هسي هسيا) الشمالية التي تمرّن فيها المغول على فكرة الحصار لأول مرة، مُحطمين بذلك لسورها العظيم الذي لم يستطع إنقاذ الصين من قبضة المغول وحملاتهم التي نهبت خيراتها لفترة امتدت ثلاث سنوات متتالية، واتجهت أطماعه إلى بلاد فارس (بعد نجاحه باحتلال كوريا عام 1214 وأصبح معها سيداً على آسيا ) التي سار إليها بجيش جرار فاق تعداده 250000 مقاتل ومليون حصان وتمكّن معه من احتلالها بعد صمود ومقاومة مريرة، وبعد أن اتخذ جنكيزخان من الأسرى دروعا بشرية أثناء حصاره لسمرقند التي أُحْرقت مبانيها ومآثرها التاريخية فوق رؤوس ساكنيها.... يروي منصور عبد الحليم في كتابه (جنكيزخان: إمبراطور الشرّ وقاهر العالم) «....كانت السرعة والمفاجأة هما سلاح المغول الثاقب والثابت ...، يهاجمون كالبرق، يطاردون كالفريسة بسرعة لم يُعرف مثيل لها ....، يدخلون المدن قبل أن تتمكن من إغلاق أبوابها... يتظاهرون بالتراجع وبمجرد أن تتفرّق جيوش العدو يعودون للهجوم بسرعة قصوى....، يحرقون العشب ويستخدمونه كستار قبل الهجوم تحت اللهب والدخان....يندفعون في سيول من الغضب لهزم العدو وزرع الخوف والرعب، وهي صفات تم اكتسابها من قائدهم العظيم جنكيزخان المُؤمن بالكرّ والفرّ والهاوي للقتل والنهب وقطع الرؤوس، وخير دليل على ذلك ما حصل في مدينة هيرات بعد احتلاله سمرقند التي لم يترك المغول فيها سوى 16 شخصا على قيد الحياة، قبل أن يصنعوا من رؤوس سكانها كومة كبيرة ويتم حرقها بعد تقطيع رؤوسهم خوفا من تظاهر أحدهم بالموت وفراره، وأخذ يتوجه بأنظاره سريعا إلى إمبراطورية خوارزم التركية التي شملت أفغانستان وإيران الحالية، وأباد سكانها وعلى رأسها حاكم مدينة اترار ينال خان الذي رفض تسليم المدينة وقام بقتل مبعوثي جنكيزخان الذي أطلق العنان لجيوشه المنغولية لمهاجمة مدينة اترار وفتحها على مشهد قطع رأس اكمها ينال خان وقلع عينيه وصب مياه الفضة فيها حتى أبيدت المدينة بنسائها وشيوخها وإحراقها بالكامل....» . «....لم يمنعه تقدم سنه، من الاستمرار بالقتل والتدمير والغزوات التي بدأ يشنها في بقاع الأرض المختلفة مُنطلقا بذلك من رؤيته التي تقول بأن الله اختاره لفتح العالم والسيطرة عليه تحت راية المغول، فعاد بجيشه إلى مملكة التانجوت الصينية لكي يعاقبهم بعد أن رفضوا إرسال الجنود له منذ عشر سنوات، ( جاء هذا الرفض نتيجة شعور التانجوت أنهم قوة عظمي وتعداد سكانهم بالملايين ومنطقتهم محمية بالامتداد الشاسع لصحراء «جوبي» والحاجز العظيم من الجبال التي تمتد شمال الصين) ومجتازا بذلك للعقبات الكبرى حتى دخل رجاله مدنها في حماسة وقوة، وكأنهم تعاطوا المنشطات واستطاع المنغوليون تدمير كل قوة عسكرية صادفتهم ودفع شعب التانجوت إلى داخل مدنهم ومحاصرتها واحتلالها بعد أن أسقط عليها جنكيزخان الكرات النارية الضخمة المحملة بمواد دهنية سريعة الاشتعال وكأنها قنابل ذرية تقذفها المناجيق العملاقة على مدن التانجوت المتعددة، وأخذت تحرق شعبها الذي سارع ملكهم إلى الاستسلام متوسلا إلى جنكيزخان الذي كان يصارع الموت حينها بالعفو على شعبه، لكن تلك الدعوات سريعا ما جوبهت بالرفض وأمر جنكيزخان وهو على فراش الموت بإبادة شعب التانجوت بنسائهم وشيوخهم وأطفالهم وأطاع جيشه الوفي الأوامر وقام بحرق مدن التانجوت وأهلكوا جميع سكانها..». كانت الفتوحات التي قادها جنكيزخان بمثابة لعنة للعالم بعد أن احتل آسيا كلها حتى امتدت إمبراطوريته من منغوليا والصين شرقا إلى الهندوأفغانستان (أو ما يسمى بجنوب الاتحاد السوفياتي) في الوسط إلى روسيا والمجر وبولندا شمالا وإيران والعراق والشام غربا، لتضحى بذلك ثاني إمبراطوريات التاريخ من حيث المساحة وسرعة الفتوحات بعد الإمبراطورية الإسلامية، قبل أن تتحطم آمال هذه الإمبراطورية بمعركة عين جالوت الشهيرة على يد سيف الدين قطز عام 1259 ...، تلك المعركة التي حطّمت أحلام جنكيزخان الذي قاد حملاته الطويلة بين المشرق والمغرب حتى توفي عام 1227 بعد سقوطه عن صهوة جواده عن عمر يناهز 65 عاما، وبعد أن أمر بإبادة شعوب مملكة التانجوت ومزّق أفغانستان وتركستان وإيران ودمّر معالمها حتى أصبحت خرابا يبابا، تاركا وراءه بحورا من الدماء، حتى تم دفنه بأحد المقابر التي بقيت مجهولة إلى الآن رفقة أسلحته وثلاثة من أحصنته لتنتهي بذلك قصة صاحب القلب الحجري الذي شكّلت فتوحاته لعنة كبرى للعالم، وتبقى آخر كلماته التي قال فيها « بمساعدة السماء فإنني استوليت لكم على إمبراطورية عظيمة، ولكن حياتي كانت أقصر من أن تسمح لي باحتلال العالم وهي المهمة التي أتركها لكم من بعدي «. معادي أسعد صوالحة