« هناك من الرجال من يُعجبوننا عندما نُبحر معهم في صفحات التاريخ الدموي العميق، ونرى النفس البشرية على حقيقتها عندما تتحوْل إلى وحش لا يشبع من سفك الدماء، ولا يغمض جفنه قبل التمثيل بالآخرين...، نؤْسَر بحكاياهم لحظات وصولهم إلى السلطة أو التربّص بخصومهم قبل أن تقشّعر أجسادنا لحظات، نبدأ معها بتلاوة تفاصيل عملياتهم وكيفيات تنفيذها، حيث الدم والقتل أرقى أساليبهم، لكننا نتردّد عن الإعجاب بهم عندما نعي جبروتهم وسفكهم الدماء بمُسميات العدالة أو الضمير الحي، دون رحمة وشفقة ودون الشعور بالرأفة أو الخجل ودون الإحساس بإمكانية وصولهم إلى المصير المؤلم الذي يُساق إليه الآخرون، وهناك إعجاب آخر بحواء ذات الأنامل الناعمة والإبتسامة المُشرقة والقدود الميّاسة التي تتحوْل سريعا من خانة الآدمية إلى خانة الوحشية والدموية، وتتحوْل فيها من مخلوق وديع لطيف إلى ثعبان شرير يلدغ كل من يقترب منه، وقد استقرت فوق قبر معد لدفن أحدهم...إنهم رجال ونساء عبروا بوابة الشر وأصبحوا أشهر السفاحين في التاريخ».. « في قصر منيف على شاطئ البحر في محيط جزيرة «هونولولو» بهاواي كان يقضي فردينالد ماركوس الرئيس السابق لجمهورية الفلبين رفقة زوجته «ايملدا» حياتهما الهادئة في المنفى منذ شباط 1986 دون أن يتخلوا عن عاداتهم التقليدية المُتمثلة في حضور القدّاس كل صباح في كنيستهم الخاصة التي أقاموها داخل حديقة القصر، فصباح كل يوم كان يسمع صوت السيدة الفلبينية الأولى (أو الفراشة الفولاذية كما كان يطلق عليها) يرّن في أرجاء القصر وهي تصدر أوامرها للخدم، أو حينما تكون في نقاش مع المحاميين المكلفين بالدفاع عنها وعن زوجها، لحماية مدّخراتهم التي تقدّر بعدة مليارات، جمعت من عرق الفلبينيين ودمائهم خلال عشرين سنة من الحكم الديكتاتوري الفردي لماركوس وزوجته حسب ما يقوله رجال الحكم والسياسة الجدد..». يتحدر فردينالد ماركوس من عائلة متواضعة من مقاطعة «الوكوس» في شمال الأرخبيل الفلبيني، حيث رأى النور في صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر من العام 1917، قبل أن يقفز من المجهول إلى المعترك السياسي، بعد أن أكمل الثانية والثلاثين من عمره ماضيا في مشواره، غير مبال بمن يتسبّب في الإساءة إليهم، يجنح بطبيعته للعنف والمغامرة التي تأصلت في نفسه، بعد تسكّعه طويلا حول القواعد العسكرية الأمريكية خلال سنوات الحرب السرّية التي عرفتها الفلبين، وأخذ يحمل تبعا لذلك العديد من الصفات الفردية المختلفة عمن سبقوه في حكم الفلبين أو مزارع الدواجن (كما أطلق عليها رجال الأعمال الأمريكيين) قبل حصولها على الاستقلال عام 1946 ناعتا من سبقوه بأنهم خيالات وألاعيب ليست إلا، فكان يرى نفسه من معدن مختلف ومستوى آخر، رغم أنه لم يأتي بجديد خلال حكمه، ولم يزحزح قيد أنملة السيطرة الأمريكية على بلاده، بقدر ما انصرف إلى استغلال الفرص لجمع المنافع والمكاسب لمصلحته. وبالعودة إلى أول الطريق ...، فقد كانت سنتان من انضمام ماركوس إلى صفوف المقاومة كافية لإيصاله إلى النيابة عام 1951 التي أظهر فيها الكثير من المرونة وفن التحبّب والاستحواذ على مشاعر الشعب، فيلجأ بين الحين والآخر إلى فن التورية والنكتة في خطاباته وأحاديثه، متقمّصا دور المُدافع عن الحريات العامة والديمقراطية الجديدة التي تحرّرت من التبعية الأمريكية، فنال إعجاب الجماهير وتصفيقهم الحار ودخل قلوبهم بعد زواجه عام 1954 من «ايملدا روميلدز» ملكة الجمال السابقة، المُلقبة بزهرة اللايات ويدخل معها منحى جديدا في الحياة السياسية، بعد أن عرفت زوجته كيف تغيّر مظهره وهندامه....، فصقلته وشذّبت من عاداته وتقاليده، ونمّت لديه طموحات جديدة، وحبّبت إليه السياسة التي انتخبته كنائب جديد عام 1959، قبل أن ينتسب إلى الحزب الليبرالي المتوسط الذي قاد معركته الانتخابية التي أوصلت «ديوسدادو ماكاباكال» إلى الرئاسة، الذي سرعان ما خاض ضده معركة انتخابية دموية حملت في طياتها التزوير والخداع والغش، وتحولت معها الفلبين إلى الحكم الديكتاتوري الفردي ابتداء من العام 1965. بدأ ماركوس حكمه الديكتاتوري الفردي في ظلّ انتشار الفقر والبؤس لدى فئات الشعب التي بدأت تتذوقها يوميا نظير ازدياد عمليات القمع والوحشية، ولم يتبقى من النظام الديمقراطي الذي دعا إليه في حملته الانتخابية سوى الاسم، خاصة وأنه لجأ إلى التزوير في الانتخابات للنجاح فيها والسيطرة على الحكم (سينتهج الطريقة نفسها في التزوير والتزييف في انتخابات 1984) وتبدأ آلة البطش الدموي وعدوى الإجرام تنتقل سريعا لتطال جميع الجزر الفلبينية التي تحوْلت إلى ملاعب لنشاطات ماركوس ورجالاته (غير الشرعية) الذين يسرقون وينهبون دون رادع أو وازع، فتحوّل من رئيس يحكم البلاد إلى زعيم عصابة مسلّحة يتابع عمليات القمع التي لقبها حينئذ بالتطهير السياسي، فلجم الصحافة وعلّق نشاطات المؤسسات الدستورية والعدلية ونقل السلطات الإدارية إلى أيدي العسكريين حتى حدا ذلك بالبعض إلى وصف مانيلا»بشيكاغو الباسيفيك» نظرا لتزايد الجرائم المرتكبة التي تمثّلت في التعذيب والإعدام دون محاكمة ودون الرجوع إلى القضاء والمؤسسات الدستورية، والتي بدأها باغتيال صديقه الحميم «بنينو اكينو» الذي صدر في حقه حكم الإعدام قبل أن يفرج عنه عام 1981، ويصدر أمرا باغتياله لحظة وصوله إلى المطار برصاصة من مسدس الجنرال «فايبان فير» رئيس أركان ماركوس وذراعه اليمنى وابن عمّه المُخلص. باغتيال «بنينو اكينو» أزاح ماركوس من أمامه خصمه العنيد والمنافس القوي في الانتخابات المقرّرة في 25 من شباط 1986، ولكن الحرب لم تنته بين الرجلين حتى بعد انتهاء حياة أحدهما (موت أكينو) فقد حرص هذا الأخير قبل موته (وكأنه كان يعلم مسبقا بأنه لن يعمر طويلا أمام براثن ماركوس وأنيابه) أن يوزّع على وسائل الإعلام العالمية كل ما كان يصله من ماركوس (بمصادر موثوقة) حول صحته ومرضه التي سارعت الصحف إلى نشرها وإبراز مرض الرئيس الذي أضحى يعاني من قصور في الكبد وبقع زرقاء في الوجه واليدين وآلام مبرحة في المفاصل مصحوبة بحمى إصابته بالضعف والهزل، وأصبح معها منتفخاً الوجه، خضع على إثرها لعملية زرع كلية اصطناعية بشكل سري في قصره من طرف فريق طبي أمريكي، وأضحى تغييرها بشكل دائم كل شهرين، وتأكدت تلك الأنباء للشعب الفلبيني بعد ظهوره وهو يعاني من صعوبة في المشي والتنقل، بعد أن أوكل لمساعديه بمساعدته على الانتقال من مكان إلى آخر داخل قصره، فثارت المعارضة داخل مانيلا، وخشيت معها واشنطن من الطاغية العجوز العاجز عن حماية قواعدها العسكرية الضخمة، وبدأت بتجييش الشعب ضده حتى اصطف الجميع وراء منافسته كورازون أكينو، التي هددها بالقتل كما فعل لزوجها وقال في حقها: «إن مكان النساء في المخادع فقط....»، وتصاعد هدير الجماهير الغاضبة التي أخذت تجوب الشوارع ليلا ونهاراً بعد أن وقف خلفها وزير دفاعه ورئيس أركان جيشه، هاتفين باسم منافسته للانتخابات الجديد كوروزان، مُشكلين ضربة قاضية لماركوس الذي عكف على ملازمه قصره طيلة الثمانية عشرة يوما الفاصلة عن يوم الانتخابات الرئاسية. بتدهور الوضع الاقتصادي والأمني للبلاد ازدادت مخاوف واشنطن بعد أن طفح كيل الشعب الذي خرج إلى الشوارع، وبدأ يهتف بالموت لماركوس، وفي السادس والعشرين من شباط 1986 الذي شكل تاريخ الانتخابات الرئاسية التي فازت بها كوروزان أكينو، ورفض ماركوس التخلي عن السلطة فبدأت حالات الانشقاق داخل صفوف الجيش الذي التحم سريعا بالجماهير، ورفضت قياداته من الحرس الجمهوري أوامر ماركوس بسحل المتظاهرين وقتلهم، بعد أن استوقفها الجدار البشري الهائل والزاحف نحو القصر الرئاسي، فوجد الضباط أنفسهم أمام اختيارين: إما أن يلتزموا بالولاء لرئيسهم وتنفيذ أوامره وإحداث مذبحة بشرية، وإما أن ينحازوا للشعب وينصروه ضد الدكتاتور المريض ..واختار الضباط أن يقفوا إلى جانب الشعب، حينها دق جرس الهاتف في قصر»ملكانيانجّ» بمانيلا، وكان على الطرف الآخر الرئيس الأمريكى يتحدث من البيت الأبيض.. كانت صورة الموقف بكل تفاصيله أمام الرئيس ريجان مع تحذير من رجال المخابرات الأمريكية فى مانيلا توحي بأن حياة الرئيس الفلبينى فى خطر، ولابد من تصرّف عاجل لإنقاذ حياته.. وجاءت عبارات الرئيس ريجان مختصرة وحاسمة: «سيدى الرئيس ماركوس إن الموقف يوشك أن يفلت من أيدينا، ولم أعد أستطيع حمايتك .. ، نحن نرحب بك فى الولاياتالمتحدة، أنت والأسرة ومن شئت من مساعديك.....، وهناك طائرة تتجه الآن إلى القصر لتحملكم.. كما يوجد يختان فى خليج مانيلا لنقل أمتعتكم، وسيتولى رجالنا تأمين رحلتكم من القصر إلى الولاياتالمتحدة»، وهي كلمات أنهت أسطورة الدكتاتور الفلبيني ماركوس الذي غادر مانيلا مساء يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شباط 1986 مُعززا بأربع طائرات أمريكية. معادي أسعد صوالحة