صدمتنا بالرئيس الفلسطيني محمود عباس وبعض سفرائه في عواصم ومنظمات دولية أكبر من صدمتنا بالمجازر التي ترتكبها الطائرات الإسرائيلية المغيرة على قطاع غزة لليوم الثامن على التوالي، ولا تفرق بين طفل أو مقعد في ملجإ للعجزة. يوم الاثنين، وفي ذروة تعاطف الرأي العام العالمي، أو قطاع عريض منه، مع ضحايا العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، خرج علينا السيد إبراهيم خريشة، سفير فلسطين في مجلس حقوق الإنسان ومقره جنيف، بقوله «إن صواريخ المقاومة التي تنطلق تجاه إسرائيل هي جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية لأنها تستهدف مدنيين»، حسب قوله، وزعم أن «إسرائيل تحذر سكان غزة قبل قصف البيوت، وبالتالي تتجنب الانتقادات الدولية». السيد خريشة نفسه، وبتعليمات من الرئيس عباس، كان بطل فضيحة مماثلة عام 2009، عندما عمل على إحباط جهود عربية وإسلامية في مجلس حقوق الإنسان نفسه لمناقشة تقرير القاضي الدولي غولدستون، الذي أكد ارتكاب إسرائيل جرائم حرب أثناء عدوانها على قطاع غزة الذي دمرت فيه 60 ألف منزل، وقتلت 1450 إنسانا، بعضهم حرقا بالفوسفور الأبيض، وثلثهم من الأطفال، رضوخا لضغوط إسرائيلية في حينها، وتراجع عن هذا الموقف ورئيسه عباس بعد هبة غضب فلسطينية. هذا الرجل يبرئ إسرائيل من جرائم الحرب ويلصقها بفصائل المقاومة الفلسطينية، ويثبت أنه إسرائيلي أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، ولا غرو أن تعلق صحيفة «معاريف» الإسرائيلية على موقفه المخجل هذا بالقول: «إن السيد خريشة يتحدث مثل المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي». لا نعرف من أين يأتي السيد عباس ووزير خارجيته رياض المالكي بمثل هؤلاء الذين يسيئون إلى كل قيم العدالة والأخلاق وليس إلى الشعب الفلسطيني والأمة العربية فقط، وكيف يعثرون عليهم وينتقونهم لمثل هذه المهام التي لا يمكن أن يقدم عليها إنسان يملك ذرة من الوطنية، ومن المفترض أنه ينتمي إلى حركة «فتح» التي قدمت آلاف الشهداء والجرحى والأسرى من أجل نصرة قضية فلسطين. قبل بضعة أعوام، خرج علينا مندوب فلسطين في الأممالمتحدة السيد رياض منصور مزايدا على نظيره الإسرائيلي، واصفا حركات المقاومة الإسلامية في قطاع غزة بكونها حركات مارقة وخارجة عن القانون، ومؤيدا قرارا بتجريمها بتهمة «الإرهاب». يصعب علي أن أعرف من أين يستقي السيد خريشة معلوماته عن جرائم الإبادة التي تمارسها إسرائيل وطائراتها في قطاع غزة، قطعا ووفق أقواله الصادمة هذه، ليست تلك التي نستقي معلوماتنا منها، ولا بد أنه يشاهد قنوات تلفزة غير تلك التي نشاهدها، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك. لم نسمع مطلقا أن العجزة الذين كانوا في مأواهم المتهالك الفقير البائس شمال قطاع غزة قد تلقوا إخطارا قبل قصفه بصواريخ «الإنسانية» الإسرائيلية، وحتى إذا تم إخطارهم فكيف سيخلي هؤلاء المأوى وهم على كراسيهم المتحركة في غضون دقائق؟ أجِبنا يا سيد خريشة. أكتب عن واقعة شخصية، فقد أبلغني أهلي اليوم في مدينة دير البلح، بأن غارات إسرائيلية دمرت منزل ابن عمي معين أبو عطوان وساوته بالأرض، وأرسلوا الصورة إثباتا لذلك، ولم يتحدثوا مطلقا عن إنذارات ولا يحزنون، وأذاعت عدة محطات تلفزة هذا الخبر بالصوت والصورة. السيد خريشة ربما يريد بمثل هذه التصريحات الصادمة تبرير تلكؤ رئيسه عباس في الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية، بذريعة أن إسرائيل ستستدعي بعض قادة حماس للمثول أمامها بتهم ارتكاب جرائم حرب، يا سيدي فلتستدعِهم، ولتضع أسماءهم في كشوفات «الأنتربول» في المطارات العالمية، فلم نسمع أن أسرة محمود الزهار الذي قدَّم ولديه شهيدين من أجل فلسطين تتسوق في شوارع أكسفورد في لندن، أو بنات إسماعيل هنية يقضين إجازة الصيف في الشانزليزيه أو أن أبا عبيدة، الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، يتشمس كل صيف على شاطئ الريفيرا جنوبفرنسا، فهم أساسا محاصرون، والمعبر مغلق، ومطلوبون لكل محاكم العالم، ولعل مثولهم أمام محكمة الجنايات الدولية في حال حدوثه «نزهة» بالمقارنة مع الوضع المعيشي الحالي في قطاع غزة. فإذا كان الرئيس عباس حريصا على سلامة قادة حماس وعدم ملاحقتهم جنائيا، ونحن نشك في ذلك، بل على يقين، فإننا نطالبه بألا يقلق، وأن يذهب إلى المحكمة الجنائية ويتقدم بطلب الانضمام إليها ويبدأ في مقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمامها، ولكنه لم يفعل ولن يفعل. تصرفات السيد خريشة ومواقفه هذه تفسر لنا أسباب تمسك الرئيس عباس بالسيد المالكي «وزير» الخارجية، فهذا «الوزير» «المخلد» في منصبه يريد سفراء وممثلين لفلسطين على هذه الشاكلة، أي ألا يفعلوا أي شيء يقلق الإسرائيليين، ولهذا تحولت معظم السفارات الفلسطينية في الخارج إلى «تكايا» يقتصر دور العاملين فيها على حضور حفلات الاستقبال ودعوات العشاء الدبلوماسية، فقد ولى زمن السفراء والدبلوماسيين الذين كانوا يتعرضون للاغتيال بسبب جرأتهم في مواجهة إسرائيل وضد جرائمها، طبعا هناك بعض الاستثناءات ولكنها محدودة، وأصحابها إما يطردون أو يرسلون إلى دول من الصعب العثور عليها في الخرائط والأطالس الموثوقة حتى لو استخدمنا مكبرات. نشعر بالخجل من مثل هذه المواقف والتصريحات، ونعتذر إلى كل الأشقاء والأصدقاء لأننا لم ننجح في مداراة هؤلاء الذين يتحدثون باسم فلسطين، أطهر قضية وأعدلها على وجه الخليقة. عبد الباري عطوان