قبل فترة من الزمن البعيد القريب، كنت في زيارة للقدس التي أعشق عبق عتيقها وقديمها وضجيج حياتها ورائحة شوارعها القديمة العامرة بالحياة الفلسطينية بكل مقوماتها والناطقة بقرون من التاريخ العربي الفلسطيني الذي يتجلى في أبواب ومداخل القدس القديمة، وعلى رأسها باب العامود الذي يعد بمثابة المدخل الرئيسي للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، وباب العامود هذا أيضا مدخل لتفرع أسواق عده تعج بالحياة والبضائع والمحلات التجارية وبعض المقاهي والمطاعم. وما طبع صورة المكان آنذاك في ذهني رائحة التوابل والقهوة بالهيل في القدس. وبينما كنت أنا وزميل نشرب فنجان قهوة نشب جدل حاد بين طفل مقدسي وجندي احتلال مدجج بالسلاح طلب من الطفل الذي يعمل كبائع جوال ترك المكان، فما كان من الطفل المقدام إلا أن رفض مغادرة المكان وطلب من الجندي أن يغادر هو المكان لأن القدس والبلاد كلها لنا، كما قال الطفل، وما أنت وأنتم إلا محتلون وغاصبون، فتجمهر الناس وشد أحدهم الطفل الغاضب من يده قائلا له تعال معي واترك هذا الغاصب «صيورو راحل غصبن عنو»، لكن الطفل استمر في توبيخ الجندي، حيث بدا الأخير متفاجئا من ردة فعل الشبل الفلسطيني الذي لم ينصع لأوامر هذا الغاصب، لكن مع تدخل أقارب الطفل ترك المكان لكنه أصر على توصيل رسالته إلى الجندي قبل مغادرته بالقول: «هاي القدس إلنا وبكره بتشوف سأعود غصبن عنك إلى هاي القرنة بالذات»... توقفت عند مقولة «بكره بتشوف» وقلت لرفيقي أرأيت هذا الطفل وشجاعته وعدم خوفه من المحتل، فهو سيكون من جيل الغضب الفلسطيني القادم والأيام بيننا وبكره بتشوف!! قبل أيام وفي هذه الأثناء، تذكرت هذا الطفل المقدسي وتصورته في صفوف الشبان الفلسطينيين الذين يقارعون الاحتلال على طول وعرض فلسطين التاريخية، ومن بينها القدس وشعفاط، مسقط رأس الفتى الشهيد محمد أبو خضير الذي فجرَّت عملية قتله الإجرامية الغضب الفلسطيني على مسلكية الاحتلال الإسرائيلي وجرائم مستوطنيه في حق الشعب الفلسطيني، في حين تقبع فيه جماعة «أوسلو» في مستنقع الذل والخذلان والعجز والتنسيق الأمني مع المحتل الذي ينكل بالشعب الفلسطيني ويخطف ويحرق أطفاله وهم أحياء يرزقون. وهنالك من يريد أن يفرق بين المحتلين والمستوطنين، وهم في الحقيقة وجهان لعملة واحدة ومنتسبون جميعا إلى صفوف جيش الاحتلال الذي ينكل بالشعب الفلسطيني ويشن في هذه الأثناء عدوانا غاشما على قطاع غزة المحاصر منذ عقد من الزمن من قبل الاحتلال وحلفائه من عرب وفلسطينيين متواطئين مع هذا الحصار طويل الأمد والذي حتما سيزيد غضبَ الأجيال الفلسطينية الشابة التي تتعرض حقوقها إلى أبشع وأشنع انتهاكات، وعلى رأس هذه الانتهاكات حق العيش بكرامة وحرية في وطن يحتله ويحاصره الأعداء وعكاكيزهم من فلسطينيين وعرب.. الجيل الفلسطيني الجديد يشعر بالعار والخزي من قيادة «أوسلوية» فاسدة وعاجزة تشارك الاحتلال، اسميا وموضوعيا، في قمع تطلعات الشعب والشباب الفلسطيني، وهذه القيادة المزعومة أخذت على عاتقها منع نشوب أي انتفاضه أو حراك شعبي فلسطيني ضد الاحتلال، وهذا ما يفسر إرسال عباس لمندوبين عنه للحديث مع وجهاء وقيادات مقدسية بهدف كبح غضب الشباب الفلسطيني والحيلولة دون تطور الوضع وتحوله إلى انتفاضة شعبية ضد الاحتلال وعكاكيزه، وعلى رأسها سلطة أوسلو المتواطئة مع هذا الاحتلال ومرتبطة به عبر المصالح المتبادلة لثلل «أوسلوية» طق عرق الحياء من وجوهها وأصبحت بمثابة خناجر في خاصرة الشعب الفلسطيني، ومن رأى كيف يتبادل مستشار عباس، السيد نمر حماد، «الحديثَ» حول قضية مقتل أبوخضير مع مذيعة إحدى الفضائيات العربية يدرك تمام الإدراك حقيقة هؤلاء... «عيب عليكي» يقول وترد المذيعة: عيب عليك انت... اسكتي... اسكتي... صه يا هذا فضحت الشعب الفلسطيني أمام الملايين.. كُنا نقول وين الملايين والآن صرنا فضيحة أمام الملايين... هكذا ضبطا يفكر ويقول جيل الغضب الفلسطيني وطنا ومهجرا وليس في فلسطين فقط... العيب بكل حذافيره وتفاصيله كامن ويكمن في مسلكية هذه الثلة الساقطة وطنيا.. فعلا عيب ومن المعيب أن يكونوا أو يسموا ذاتهم «قيادة» فلسطينية!! كل عدوان إسرائيلي على غزة له عنوان وأهداف تتمثل في القتل الجماعي والردع، وما هو ملاحظ أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب في كل عدوان على غزة مجازر في حق عائلات فلسطينية كاملة، تقوم الطائرات المعتدية بقصف بيوتها مع سبق الإصرار... عائلة السموني 2009 وعائلة الدلو 2012 وعائلة كراوع 2014، وهذا ما يثبت أن القضية ليست خطأ أو صدفة، لا بل هي جزء لا يتجزأ من أهداف كل عدوان يشنه الاحتلال على قطاع غزة... المفارقة هي أن الاعتداءات على غزة تزايدت منذ عام 2007 بينما الاستيطان والمستوطنون صاروا أضعاف الأضعاف في الضفة والقدس، وفي الوقت نفسه ازدادت جماعة أوسلو سقوطا وانحدارا وطنيا وصل إلى حضيض الحضيض إلى حد تكاتف هذه الجماعة مع الاحتلال وإهمال القضايا الوطنية الفلسطينية بالكامل وإهمال قضية الأسرى وترك المستوطنات والمستوطنين يستفحلون ويعربدون في الضفة والقدس، لا بل إن الشعب الفلسطيني في كامل فلسطين التاريخية يتعرض إلى حملات اقتلاع وتشريد وتضييق خناق من الجليل إلى النقب ومن الخليل والقدس إلى غزة... كيف لا يغضب الفلسطيني وهو يوميا في مرمى الاحتلال والإذلال والهدم والمصادرة والمنع من العمل والعيش الكريم... كثيرون لا يعرفون أن الشعب الفلسطيني في وطنه يحتاج إلى تصريح للعمل والمرور والطبابة، وكثيرون من أبناء هذا الشعب «يتسللون» من أجل العمل من جزء إلى جزء آخر داخل الوطن الواحد... أن تصبح متسللا داخل وطنك؟!.. كيف لا يغضب هذا الشعب وهو يحتاج إلى ألف تصريح من أجل الصلاة في الأقصى الذي يحاول الاحتلال تقسيمه على نمط تقسيم الحرم الإبراهيمي في الخليل؟!.. كيف لا يغضب الفلسطيني وهو ينتظر ساعات طويلة على حواجز الاحتلال... إذلال مع سبق الإصرار... كيف لا يغضب الفلسطيني وكروم زيتونه تُحرق عمدا وأغنامه تسمم من قبل المستوطنين؟.. كيف لا يغضب الفلسطيني وهو يُسجن خلف الجدار ويتضور جوعا ويهدم بيته وتصادر أرضه... بعينه المجردة، يرى الفلسطيني كيف يستولي المستوطنون على أرض آبائه وأجداده... كيف لا يغضب الفلسطيني وهم ينكلون به وينتهكون حرمة بيته ويرعبون أطفاله ويحرقونه حيا في حين تتبكبك جماعة أوسلو على مصير حفنة مستوطنين يحتلون قلب مدينه فلسطينيه كبيره مثل مدينة الخليل... حفنة مستوطنين يحتلون قلب الخليل ويغلقون شارع الشهداء الرئيسي في المدينه منذ عقود!... كيف لا يغضب الفلسطيني وأطفاله يذهبون إلى المدارس في الخليل عبر طرق التفافية بسبب المستوطنين بينما المدرسة لا تبعد عن بيته سوى بأمتار... في فلسطين، بلغ الظلم ما بعد بعد الزبى في ظل وجود سلطه عاجزة وفاسدة.. كيف لا يغضب الفلسطيني وهم يهدمون بيته في شعفاط وسلوان والقدس والجليل والنقب بحجة أو بغير حجه.. كيف لا يغضب الفلسطيني وهم يقتلعون ويجرفون قبور أجداده ويشيدون عليها البيوت والملاهي؟ لا بل كيف لا يغضب الفلسطيني وهم يُحولون المساجد إلى خمارات وزرائب للبهائم... كيف لا يغضب الفلسطيني في الضفة والقدس والجليل والمثلث والساحل والنقب الذي يهدد سيف الهدم الإسرائيلي فيه وجود 45 قرية عربيه كانت موجودة قبل وجود الكيان الغاصب... كيف وكيف وألف سؤال وألف حاله لا تترك مجالا غير غضب الفلسطيني على ما آلت إليه أحواله في ظل احتلال استيطاني إحلالي وعنصري !؟ كيف لا يغضب الفلسطيني وهو يُعامل في دول اللجوء والجوار العربي معامله إنسان بلا حقوق ولا هوية، حيث يحتجز في المطارات والمعابر العربيه ويمنع من العمل في وظائف كثيرة في بعض الدول العربية ويحظر عليه امتلاك بيت في دول عربيه أخرى، ناهيك عن حال اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات المهجر والداخل... مخيمات مكتظة بالسكان وبيوت آيلة للسقوط، وعن غياب الخدمات الصحية والبنية التحتية في المخيمات حدث بلا حرج، وبالمناسبة فبعض المخيمات الفلسطينية في لبنان لا تجد مساحة قبر لدفن موتاها... ضاقت الدنيا بالفلسطيني، حيا أو ميتا؟! كيف لا يغضب الفلسطيني في حين يحاصر العرب والمسلمون قطاع غزه جنبا إلى جنب مع الاحتلال منذ عقد من الزمن... جيل غضب كامل ينمو ويترعرع في مساحة علبة سردين.. يعتبر قطاع غزة أكثر منطقة مكتظة بالسكان في العالم، وفي غزة حالة الناس الاقتصادية صعبة إلى حد وجود ظاهرة الجوع وسوء التغذية الذي يعاني منه الأطفال والكبار في غزة.. حكام مصر الجدد هدموا الأنفاق دون أن يفتحوا معبر رفح بشكل دائم.. الحجج العربية والتبرير والتمرير دائما في الميدان الذي يُترك فيه الفلسطيني وحده يذود عن الوطن وعن المقدسات الإسلامية... المؤسسات الصهيونية تدفع بلايين الدولارات من أجل تهويد القدس، في حين يعاني المقدسيون العوز والفقر ولا أحد يدعم صمودهم في القدس... بلايين للتهويد مقابل بضعة ملايين يقدمها العرب للقدس والأقصى!!.. نعم.. الجيل الفلسطيني الجديد جيل غضب وإصرار، وهو الذي يذود اليوم عن الكرامة الوطنية الفلسطينية، وهو الذي أسقط المشاريع التهجيرية الصهيونية مثل برافر وغيره، وهو الذي يقيم الفعاليات النضالية في الضفة ويذود عن قطاع غزة بدمه وروحه... جيل فلسطيني يتشكَّل ويستعمل التقنيات الإعلامية والتواصلية الحديثة في تحركاته وفعالياته النضالية، في حين تحاول فيه جماعة أوسلو زرع الإحباط وثقافة الاستسلام إلى حد المحاولة المستميتة لمنع بوادر انتفاضه جديدة.. الجيل الفلسطيني الجديد لا يعرف ولا يعترف بخطوط خضراء ولا بيضاء، ويرى أن مصيره مصير شعب واحد في الضفة والقطاع والجليل والنقب ووطنا ومهجرا... ممارسات الاحتلال والإحلال الإسرائيلي نحو الشعب الفلسطيني جعلته واحدا وموحدا، وذلك بالرغم من رسم الحدود الوهمية وإطلاق التسميات التضليلية... الاحتلال وعباس وثلته يستميتون معا لتثبيت يهودية الكيان الإسرائيلي، لكن الواقع على الأرض يتغير تدريجيا لصالح الشعب الفلسطيني وبخطى واثقة يخطوها الجيل الفلسطيني الجديد... مثالان حيَّان وأكثر على هذا التطور: مشاركة الشباب الفلسطيني، وطنا ومهجرا، في إسقاط مخطط برافر التهجيري الذي استهدف وجود فلسطينيي النقب ومشاركة الشعب والشباب الفلسطيني في الذود عن الأقصى والرباط بداخله ومشاركة الشباب في هذه الآونة في الاحتجاجات على جريمة قتل الطفل محمد أبوخضير... في كل هذه الاحتجاجات يشارك الشباب الفلسطيني متخطيا وهم الخط الأخضر وحدود جمهورية موز عباس وثلته الفاسدة والعاجزة.. لا ننسى، طبعا، النشاما الذين ذادوا ويذودون مرارا وتكرارا عن غزة هاشم وعن شعبهم في قطاع غزه... كيف لا يغضب الشعب الفلسطينيوغزه تحت النيران والاحتلال يرتكب المجازر في حق الشعب الفلسطيني في الوقت الذي يشارك فيه محمود عباس في نفس اليوم بخطاب مسجل في مؤتمر إسرائيل للسلام الذي تنظمه صحيفة «هآرتس» العبرية في تل أبيب... الغد القادم: جيل الغضب الفلسطيني في الميدان وقادم الأيام والزمن سيثبت هذا القول عملا وفعلا... بزوغ معالم الغد الفلسطيني القادم!! شكري الهزَّيل