في كراسي الاعتراف تجري العادة أن يسرد المحاور حياته منذ أن رأى نور الحياة الأول إلى نهاية مساره الحياتي، لكن محمد البطيوي، آثر أن يسير ضد هذا المنطق، ويشرع في بناء الأحداث بالطريقة التي يراها هو مفيدة للتاريخ المغربي، أي أنه اختار أن يبدأ بلحظة عودته إلى المغرب بعد 27 سنة من حياة المنفى الاضطراري تارة، والاختياري تارة أخرى. في بروكسيل، يتذكر البطيوي قصته مع الاعتقال والتعذيب البشع الذي تعرض له بمدينة وجدة، بعدما ورد اسمه إلى جانب طلبة آخرين في اللائحة السوداء للمشاركين في إضرابات سنة 1984، ويتوقف طويلا عند تجربة المنفى وقصة هروبه من المغرب وعلاقته بمومن الديوي، أحد أبرز معارضي نظام الحسن الثاني، ويعود، فوق ذلك، إلى تفاصيل تنشر لأول مرة حول التنسيق الذي كان يجري خارج المغرب للإطاحة بالحسن الثاني. - لا أعتقد أن مرحلة بكل ذلك الزخم السياسي يمكن أن تفصل بين السياسي والنقابي، أي أن الاتفاق الذي بموجبه تم رأب الصدع بين الفريقين المتصارعين داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغربي كان مفخخا وقابلا للانفجار في أي لحظة؟ أعتقد أن الأمر صحيح من ناحية، لكن من ناحية أخرى لا أحد من المناضلين كان يريد أن تستمر حالة الانشقاق والصراع الذي لا ينتهي، ولذلك كان الالتزام بالخط النقابي خيارا لا مناص منه، ومن ثم الانصراف إلى الدفاع عن الحق في المنحة والحق في السكن وتوفير شروط مناسبة للتحصيل الدراسي. بالنسبة لي كان الأمر وجوديا، فأي خوض في الأمور السياسية وقتئذ كان بمثابة إعلان للحرب. - هل وصل الصراع بين الفريقين إلى درجة الصراع المادي؟ لا أبدا، كان هناك نوع من الوعي أثناء طرح الأفكار ومناقشتها، حتى وإن كانت في بعض الأحيان تكتسي صبغة حادة، لكنها لم تصل إلى حد استعمال العنف المادي. يجب أن نعترف أننا كنا اندفاعيين جدا، وساهمت الجامعة كثيرا أو قليلا في الحد من هذا الاندفاع والنظر إلى الأمور بعقلانية وتأن. - بعد دراستك للبيولوجيا، هل واصلت مسارك داخل الجامعة في نفس التخصص؟ لا، لأن سوق الشغل ببلجيكا لم تكن في تلك اللحظة بحاجة إلى خريجي شعبة البيولوجيا والجيولوجيا، وقررت أن أتابع دراستي في شعبة الهندسة التجارية ببروكسيل حيث كنت أدرس وقتها، هي صدف التاريخ لو شئت قول ذلك. أمضيت خمس سنوات في هذه المؤسسة، وبالموازاة مع ذلك انتخبت كاتبا عاما للاتحاد الوطني لطلبة المغرب سنة 1988 وانتخبت لمرة ثانية في السنة الموالية. لكن إذا كانت الأحداث طرية في ذهني، أتذكر أنه في نفس السنة خرج إلى الوجود كتاب «حقائق مغربية» لصاحبه مومن الديوري، وهي السنة التي التقيت فيها مومن الديوري. - كيف حدث ذلك؟ وجهنا له دعوة رسمية للحضور إلى مدينة بروكسيل للحديث عن حيثيات إصدار كتابه الجديد، وأنا من ترأست حلقة النقاش يومها، وكان النقاش راقيا جدا بين الحاضرين وبين الديوري. لا أخفيك أننا كنا منبهرين جدا بتجربته، لأنه عاشر شيخ العرب والمهدي بنبركة ومجموعة من الشخصيات البارزة في المغرب ووالده كان من بين مؤسسي حزب الاستقلال. - هل تحدث إليه على انفراد بعد نهاية حلقة النقاش؟ بطبيعة الحال، فبعد نهاية الندوة مباشرة، بدأنا نتحدث عن محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان يمثل رمزا بالنسبة لنا ولكل الأحرار في العالم. في اللقاء، تحدث الديوري كثيرا عن عبد الكريم الخطابي. أريد أن ألخص لك، بعبارة، ماذا كان يمثل الخطابي بالنسبة للديوري: هناك الله والرسل والأنبياء ثم بن عبد الكريم الخطابي. - ألا تعتقد أن مثل هذا التقدير لشخصية الخطابي كان نابعا أساسا من النزوعات الجمهورية التي كانت لدى الديوري، خاصة وأن الخطابي سبق له أن أسس الجمهورية الريفية خلال العشرينيات من القرن الماضي، بالرغم من اختلاف المؤرخين حول ماهيتها ومقاصدها؟ هو معطى يمكن أن يفسر كل هذا الإعجاب وكل هذا الحب الذي يكنه الديوري للخطابي، بيد أنني أرى أن ثمة عوامل أخرى غير ذلك. - هل اقتصر حديثكما فقط على الخطابي ولم يبادر الديوري للكلام عن مخططاته خارج المغرب المناوئة لنظام الحسن الثاني؟ في ذلك اللقاء لم يخبرني بأي شيء، ولا بأس أن أذكرك أنه من شيم الديوري أنه كان كتوما جدا ولا أحد كان يحزر ما يفكر فيه، وكان يقول لي إن السبب الأساس الذي صقل هذه الشيمة أكثر هو عدد المرات التي غدر فيها. لقد عذبه أوفقير سنة 1963 بطريقة بشعة حكى عنها في إحدى كتاباته ولم يقدر أبدا على نسيان ذلك، وأعترف لك أنك لن تقدر على إكمال قراءة صفحات كتابه من فرط حديثه عن طرق التعذيب البشعة التي تعرض لها. - أخبرته بقصة اعتقالك في المغرب ومنعك من التسجيل في الجامعة؟ نعم أخبرته بكل تفاصيل القصة، وأنا موقن أنه تيقن من الأمر فيما بعد. مضت أيام كثيرة وعاد الديوري إلى بروكسيل ليلقي محاضرة بدعوة من الحزب اللينيني الماركسي البلجيكي. الذي لن أنساه أن طريقة كلامه كانت مؤثرة جدا بسبب إتقانه للغة الفرنسية وهندامه الأنيق. حضرت هذه الندوة، وتذكر ملامحي وجاء عندي وعانقني بحرارة كبيرة، ومن الطرائف التي أحتفظ بها أنه كان يطلق علي اسم «حبيب الله». الغريب في القصة أنه بالرغم من فارق السن الكبير بيننا، كان الديوري يحب استشارتي حتى فيما يتعلق بأعماله في كل أنحاء العالم. - ماذا دار بينكما في اللقاء الثاني ببروكسيل؟ دعاني إلى باريس ليعرفني على عائلته، وأخبرته أني رزقت بابني الأول «ماسين»، فألح مرة أخرى على زيارته في العاصمة الفرنسية باريس، وكان ذلك في سنة 1989 حسب ما أتذكر. بالفعل ذهبت عنده وألفيته يسكن في منطقة «نويي»، إحدى أرقى الأحياء الباريسية. في باريس أخبرني أن مصدر إعجابه بي يكمن أساسا في تشابه مساراتنا النضالية بالمغرب، والأكثر من كل ذلك أنه فاجأني بسؤاله عن أبي وعن عائلتي وعلم بكونه نزيها وصادقا في عمله. كانت تراوده فكرة جمع من كان يسميهم بالمناضلين الشرفاء بالمهجر، وسألته عن الهدف من ذلك قبل أن يجيب قائلا: «وايلي أسي محمد هادشي مكيتسولش عليه، نحن نريد أن ننهي نظام الحكم»، فبادرته بالسؤال: «إذا قضينا على النظام من سيحل محلهم، ألا يمكن أن نصلح هذه المملكة من الداخل».