قبل عشرة أيام، أصدر العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز توجيها ب»اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لحماية مكتسبات الوطن وأراضيه»، في ضوء الأحداث الجارية في المنطقة، وخاصة العراق، في ظل سيطرة جماعات مسلحة (الدولة الإسلامية) على مدن شمال وشرق العراق، وأضاف في رسالة شديدة اللهجة «لن نسمح لشرذمة من الإرهابيين اتخذوا هذا الدين لباسا يواري مصالحهم الشخصية ليرعبوا المسلمين الآمنين». بعد يومين على هذا التوجيه، أصدر مراسيم بتعيين الأمير بندر بن سلطان مبعوثا خاصا له، والأمير خالد بن بندر رئيسا لجهاز الاستخبارات العامة، وأعلن حالة الطوارئ في صفوف القوات السعودية، وحشد 30 ألف جندي على حدود المملكة مع العراق التي تمتد لأكثر من 800 كيلومتر. الخطر لم يأت إلى المملكة من الشمال، حتى الآن على الأقل، وإنما من الجنوب، ومن اليمن بالذات عندما قام ستة أشخاص ينتمون إلى تنظيم «القاعدة» باقتحام معبر الوديعة الحدودي، يوم الجمعة الماضي، بعد أن قتلوا جنديا واستولوا على سيارة الأمن التي كانت بحوزته، واحتلوا مبنى المباحث العامة في مدينة شرورة القريبة، وقاتلوا حتى نفذت قنابلهم وذخائرهم وفضل اثنان منهم تفجير نفسيهما بأحزمة ناسفة على أن يستسلما لقوات الأمن التي حاصرتهما، فكانت الحصيلة مقتل أربعة من رجال الأمن وخمسة من المهاجمين وأسر سادس بعد إصابته. هجوم معبر الوديعة تزامن مع الذكرى الهجرية الخامسة لمحاولة الاغتيال الفاشلة لوزير الداخلية الحالي الأمير محمد بن نايف عندما ادعى عبد الله عسيري، عضو تنظيم القاعدة المطلوب للأجهزة الأمنية، أنه تائب ويريد العودة إلى المملكة، وحين استقبله الأمير محمد بن نايف في قصره بعد أن أرسل إليه طائرة خاصة فجر نفسه حيث كانت القنبلة مزروعة في أحشائه، حسب الرواية الرسمية، فقتل بينما أصيب الأمير إصابة خفيفة. المملكة العربية السعودية التي حاولت إبعاد ثورات الربيع العربي وأعمال العنف والاحتجاجات المرافقة لها عن حدودها من خلال دعم المعارضات المسلحة بالمال والسلاح، مثلما هو حادث في اليمن العراق وسورية ومصر وليبيا (بدرجة اقل)، وجدت نفسها محاصرة بخطر أكبر شمالا وجنوبا ويتمثل في تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي ورث إيديولوجية تنظيم «القاعدة» وممارساته وأهدافه، وأعلن قيام دولة الخلافة بزعامة أبي بكر البغدادي في منطقة تمتد حدودها المؤقتة لتشمل الشام والعراق والمملكة العربية السعودية ودول الخليج والمغرب العربي. القيادة السعودية كانت تتحوط من الخطر الإيراني «الشيعي»، وتقيم التحالفات الدولية، وتنفق حوالي 130 مليار دولار على أسلحة حديثة من أجل مواجهته وحماية حدودها، لتجد نفسها تواجه خطرا «سنيا»، ربما يشكل تهديدا أكبر متمثلا في التنظيم الجديد القديم الذي يتوسع بسرعة مفاجئة. اللافت أن استراتيجية «الدولة الإسلامية» تقوم بالدرجة الأولى على الاستيلاء على المعابر الحدودية وإزالتها، خاصة بين سورية والعراق، والعراق والأردن، وكان من المفترض التوجه نحو المعبر الحدودي السعودي العراقي في عرعر ورفحاء بعد سحب السيد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي 2350 جنديا من الحدود السعودية لتعزيز أمن العاصمة، في خطوة فسرها البعض على انها دعوة غير مباشرة لتنظيم «الدولة الإسلامية» للاستيلاء على هذه الحدود وتورط المملكة في الصراع، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى إرسال 30 ألف جندي من قبيل الاحتياط لحمايتها. انشغال السعودية بأمنها الداخلي وحماية حدودها أدى إلى انسحابها، تدريجيا وإعلاميا وعسكريا، من ملف الأزمة السورية الذي كانت تجلس في مقعد القيادة فيه وتؤسس وتمول جبهات إسلامية تقاتل من أجل إسقاط النظام السوري، الأمر الذي يؤكد الثغرات الكبيرة في الاستراتيجية السعودية تجاه هذا الملف وغيره، وسوء التقدير لتطورات الأوضاع في المنطقة. الأولويات الغربية في سورية والعراق تغيرت بسرعة لافتة، فلم يعد إسقاط النظام السوري إحداها، بل مواجهة الجماعات الإسلامية المتشددة وحماية المملكة العربية السعودية والأردن من أخطار اجتياحاتها باعتبارها الهدف القريب لهذه الجماعات. الدولة الإسلامية تشكل خطرا على المملكة لسببين أساسيين: الأول، عدم اعتراف هذه الدولة بنظامها وشرعيته، رغم تطبيقه الشريعة الإسلامية، ووجود ثأر لدى قادة هذا التنظيم تجاه المملكة لأن الطائرات الأمريكية بدون طيار التي تقصف تجمعات القاعدة في اليمن تنطلق من قاعدة سرية في منطقة شرورة السعودية التي هاجمتها «خلية معبر الوديعة» القريبة من الربع الخالي؛ أما الثاني فهو وجود أكثر من ثلاثة آلاف سعودي يقاتلون حاليا في صفوف قوات «الدولة» وقدموا البيعة إلى زعيمها، وضِعف هذا العدد في اليمن يقاتل تحت فرع تنظيم «القاعدة» في الجزيرة العربية بقيادة ناصر الوحيشي. وتفيد المعلومات شبه المؤكدة بأن احتمالات انضمام هذا الفرع إلى الدولة الإسلامية وتقديم البيعة إلى زعيمها باتت كبيرة جدا. كيف ستواجه القيادة السعودية هذا الخطر الذي يحيط بها شمالا وجنوبا، ويحاول اختراقها في العمق (اكتشاف خلية في مايو الماضي تضم 62 شخصا، نسبة كبيرة منهم من السعوديين وتنتمي إلى الدولة الإسلامية وكانت تخطط لهجمات ضد أهداف سعودية وأجنبية؟). من المفارقة أن خيارات السعودية في هذا المضمار صعبة ومكلفة في الوقت نفسه، ويمكن اختصارها في نقطتين: - الأولى: أنْ تدخلَ في تحالف عسكري وسياسي وأمني مع إيرانوالعراق وسورية، وهم أعداؤها اللدودون، وتكوين جبهة قوية معهم لمواجهة هذا الخطر؛ - والثانية: أنْ تقررَ الاعتماد على الذات، وترفض الانخراط في هذا التحالف، وتحاول فتح قنوات اتصال بهذا التنظيم وتقديم الدعم، المالي والعسكري، إليه على أساس النظرية التي تقول عدو عدوي حليفي. وربما تكون عملية رد الاعتبار إلى الأمير بندر بن سلطان وتثبيته في موقعه كأمين عام لمجلس الأمن الوطني، الذي يرأسه الملك، مؤشر في هذا الصدد، أي احتمال التواصل مع هذه الدولة. الخيار الأول، على صعوبته، يظل الأكثر ترجيحا والأقل كلفة بالنسبة إلى المملكة وقيادتها، لسبب بسيط هو أن هناك إجماعا إقليميا ودوليا على حتمية القضاء على تنظيم الدولة باعتباره تنظيما «إرهابيا» تتفق عليه وتلتقي فيه الولاياتالمتحدة وروسيا، أي أن خطر هذا التنظيم وشدة مراس مقاتليه وتشدده العقائدي ودمويته بات عامل توحيد لكل الأعداء في المنطقة تحت مظلة الخوف منه. الإطاحة بالسيد نوري المالكي، وتشكيل حكومة توافق جديدة تضم السنة والأكراد إلى جانب الشيعة، وفي إطار تفاهم على الرئاستين الأخريين (الجمهورية والبرلمان) يمكن أن يوفر الغطاء لانضمام السعودية إلى هذا التحالف، وما تقديمها 500 مليون دولار كهبة لمساعدة العراقيين إلا عوبون أو مقدمة في هذا الخصوص. السياسة لعبة خطرة، ولا نقول قذرة فقط، وكل شيء جاهز فيها، ولهذا لن نستغرب وصول الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى الرياض في أي لحظة، ولا نستبعد أن يفعل الرئيس بشار الأسد الشيء نفسه، ولكن بعد فترة قد تطول أو تقصر، فأمن الدول والأنظمة يتقدم على كل الاعتبارات والمبادئ، فلا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، والأيام المقبلة حافلة بالمفاجآت قد تثير العديد من علامات الاستفهام لغرابتها. عبد الباري عطوان