التحرك الدبلوماسي المكوكي الذي يقوم به حاليا جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، في المنطقة وكانت مدينة جدة محطته الأخيرة حيث التقى بالعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، يبدو أنه حقق تفاهما يقوم على ثلاث نقاط أساسية يمكن استخلاصها من قراءة معمقة للتصريحات المتوفرة حولها: - الأولى: الإطاحة بالسيد نوري المالكي من رئاسة الوزارة في العراق باتت شبه مؤكدة، تلبية لشرط سعودي خليجي أردني ومباركة المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني الذي طالب بالاتفاق على الرئاسات العراقية الثلاث (رئاسة الدولة والوزراء والبرلمان) قبل انعقاد البرلمان والبدء في المشاورات لتشكيل الحكومة الجديدة في الأول من الشهر المقبل (اليوم)، دون أي إشارة إلى السيد المالكي، وتخلي السيد مقتدى الصدر عنه، وحديث السيد الحكيم عن بدائل على الطاولة؛ - الثانية: تحويل الجيش السوري الحر إلى «قوات صحوات» جديدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية على الأرض العراقية أولا والسورية لاحقا، ورصدُ 500 مليون دولار من قبل الإدارة الأمريكية لتدريبه وتسليحه أولُ مؤشر في هذا الخصوص؛ - الثالثة: بدء الضربات العسكرية الأمريكية بطائرات، بطيار أو بدونه، لتصفية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومحاولة إنهاء سيطرتها على الأنبار والموصل وتكريت والفلوجة والمعابر الحدودية بين العراق وسورية، وبين العراق والأردن، ومنع اقتراب قوات التنظيم من الحدود السعودية والأردنية التي تعتبر خطا أحمر أمريكيا. اللاعبون الأساسيون في الأزمتين السورية والعراقية يختلفون على كل شيء، ولكنهم يتفقون على أمر واحد وهو محاربة «الدولة الإسلامية» التي تمثل خطرا «إرهابيا»، في نظرهم، يجب استئصاله من جذوره قبل أن يقوى أكثر ويصبح خطرا لا يمكن السيطرة عليه. وعندما نشير إلى اللاعبين الأساسيين فإننا نقصد أمريكاوإيران والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات، وربما سورية أيضا، علاوة على إسرائيل التي عرضت خدماتها في هذا الخصوص على لسان وزير خارجيتها أفيغدور ليبرمان، ولكن هذا العرض لم يحظ بأي ترحيب في العلن على الأقل، والله أعلم بالبواطن. السيد المالكي كان يشكل العقبة الرئيسية التي تحول دون التوصل إلى اتفاق يجمع هذه الأضداد؛ ويبدو أن زيارة الوزير جون كيري لبغداد وأربيل، وقبلهما عمان، وأخيرا مدينة جدة، قد أزالت هذه العقبة من الطريق الذي بات مفتوحا الآن لبدء الضربات الجوية الأمريكية المكثفة. أما على الأرض، فإننا قد نشهد تحالف صحوات قديما سيتم إحياؤه، وآخر جديدا في طور البناء والتدريب والتسليح، ونقصد بذلك الجيش السوري الحر، وقد حدث تطوران في هذا الاتجاه: - الأول: التكليف الرسمي الذي صدر من الوزير كيري للسيد أحمد الجربا، رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض، أثناء لقاء الرجلين في مطار جدة الدولي صباح يوم الجمعة، حيث قال كيري للجربا: «لدينا الكثير لنتحدث عنه في ما يتعلق بالمعارضة المعتدلة في سورية التي لديها القدرة على أن تكون لاعبا مهما في صد وجود الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وإشارته إلى أن السيد الجربا «يمثل عشيرة يمتد وجودها إلى العراق، وهو يعرف أناسا هناك، وستكون وجهة نظره ووجهة نظر المعارضة السورية مهمة جدا للمضي قدما». الوزير كيري يتحدث هنا عن قبيلة «شمر» التي يقدر عدد أبنائها بسبعة ملايين شخص بعضهم يعتنق المذهب الشيعي والآخر السني، وينتشرون في المربع العراقي السوري السعودي الأردني، ويريد كيري أن تدعم هذه القبيلة المخطط الأمريكي الإقليمي الجديد للقضاء على ما يسمونه تنظيم «داعش»، مقابل وعود بالدعم وتشكيل حكومة غير طائفية في العراق تنهي ممارسات الإقصاء والتهميش؛ - الثاني: إصدار السيد الجربا قرارا يلغي بموجبه قرارا آخر للسيد أحمد طعمة، رئيس الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، القاضي بإقالة العميد عبد الإله البشير، رئيس هيئة أركان الجيش السوري الحر، وأعضاء مجلس القيادة العسكرية، وإحالتهم جميعا على التحقيق بتهم عديدة، بينها «الفساد». واعتبار قرار السيد طعمة لاغيا لأنه ليس من صلاحياته اتخاذه، حسب القانون الأساسي للائتلاف. السؤال المطروح الآن وبقوة هو حول احتمالات نجاح «تحالف الأضداد» هذا في تحقيق أهدافه، وأبرزها «اجتثاث» الدولة الإسلامية والقضاء عليها في سورية والعراق معا؟ هناك احتمالان رئيسيان في هذا الصدد: - الأول، أن ينجح هذا التحالف في مهمته فعلا بسبب أهمية وقوة الدول المنخرطة فيه، سياسيا وعسكريا وماليا، ووضع الولاياتالمتحدة كل ثقلها العسكري والمالي خلفه، ولكن هل سيستمر هذا التحالف متماسكا بعد تحقيق هذا النجاح ولا ينقسم على نفسه، أم إن هناك تصورا لتسوية سياسية محتملة بين طرفيه الأساسيين، أي السعودية وإيران، برعاية أمريكية للملفين السوري والعراقي خاصة؟ - الثاني، أن يفشل هذا التحالف في مهمته بسبب قوة الدولة الإسلامية، والتفاف جماهيري سني حولها بسبب الكراهية للتدخل الأمريكي، وضعف الأرضية العقائدية والسياسية التي يقف عليها التحالف المضاد، وتقلص فرص إحياء نظام الصحوات مجددا لتغير الظروف المحلية العراقية، وغضب العشائر العراقية من الخذلان الأمريكي لهم. من الصعب ترجيح كفة أي من الاحتمالين، وخاصة الأول الذي يتحدث عن فرص النجاح، لأن الجيش الحر الذي سيكون رأس الحربة في قتال «الدولة الإسلامية» على الأرض خسر أكثر من مرة في ميادين القتال أمام قوات «الدولة الإسلامية»، والخلافات بين قيادته تمزق صفوفه، والخمسمائة مليون دولار التي رصدتها الولاياتالمتحدة لتدريبه وتسليحه ليست بالمبلغ الكبير والفاعل، لأن دولا عربية خليجية، مثل المملكة العربية السعودية وقطر، دفعت أضعاف هذا المبلغ دون أن ترى تغييرات جذرية على الأرض وأي تقدم حاسم في جبهات القتال السورية، وإلا لما صمد النظام ثلاث سنوات واستطاع استعادة مناطق عديدة في الأشهر الأخيرة، خاصة في القلمون وحمص وكسب وبعض قرى ريف دمشق والقصير. الحروب لا تسير دائما وفق «المانيول» أو المخطط المرسوم لها، فالمفاجآت واردة، فمن كان يتوقع الصدامات الدموية بين تنظيمين يمثلان القاعدة (النصرة والدولة) على الأرض السورية، ومن كان يتصور سقوط الموصل التي توجد فيها أربع فرق (30 ألف جندي تقريبا) خلال ساعات أمام زحف تحالف الدولة الإسلامية والعشائر وقوات البعث؟ القضاء على «الدولة الإسلامية» قد لا يكون بالسهولة التي يتصورها الوزير كيري وحلفاؤه، لأنها قوية، أولا، وتوجد في مدن كبرى بين ملايين السكان المدنيين، ثانيا، مما يضع محظورات كبيرة أمام القصف الجوي، ومن هنا لا نستبعد أن تكون هذه المهمة مكلفة بشريا ومعنويا وسياسيا وقد تستغرق وقتا طويلا يسمح بطفو التناقضات بين هذا التحالف على السطح. أخيرا، ماذا سيكون موقف الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه في سورية، وهل سيكون جزءا من التحالف الجديد، بشكل مباشر أو غير مباشر، ومقابل أي ثمن؟ بقاؤه في السلطة مثلا، ورفع الحصار عنه وإعادة تأهيله وعودته إلى المجتمع الدولي والجامعة العربية من البوابة الرئيسية؟ لن نفاجأ، ولا شيء مفاجئ هذه الأيام، إذا ما تحالف النظام السوري مع «الدولة الإسلامية» ودعمها، ووضع خلافاته جانبا معها، ولو بشكل مؤقت، إذا أحس بأن الخطوة المقبلة، بعد القضاء عليها، أي الدولة الإسلامية، هي استدارة هذا التحالف للإطاحة به، على أساس نظرية أكلت يوم أُكل الثور الأبيض؟ أو مثلما حدث مع الرئيس الراحل صدام حسين بعد انتهاء الحرب مع إيران. المنطقة كلها تدخل مرحلة تحالفات ومخططات غريبة، ولذلك علينا أن نتوقع الكثير من المفاجآت، من بينها تغيير في المعادلات السياسية والعسكرية في الأسابيع والأشهر، وربما السنوات القادمة، فإبعاد النظام الروسي عن هذا الحراك الأمريكي، وغموض النظام السوري، عنصران أساسيان قد يفسدان الطبخة أو يحرقانها قبل أن تنضج! عبد الباري عطوان