في كراسي الاعتراف تجري العادة أن يسرد المحاور حياته منذ أن رأى نور الحياة الأول إلى نهاية مساره الحياتي، لكن محمد البطيوي، آثر أن يسير ضد هذا المنطق، ويشرع في بناء الأحداث بالطريقة التي يراها هو مفيدة للتاريخ المغربي، أي أنه اختار أن يبدأ بلحظة عودته إلى المغرب بعد 27 سنة من حياة المنفى الاضطراري تارة، والاختياري تارة أخرى. في بروكسيل، يتذكر البطيوي قصته مع الاعتقال والتعذيب البشع الذي تعرض له بمدينة وجدة، بعدما ورد اسمه إلى جانب طلبة آخرين في اللائحة السوداء للمشاركين في إضرابات سنة 1948، ويتوقف طويلا عند تجربة المنفى وقصة هروبه من المغرب وعلاقته بمومن الديوي، أحد أبرز معارضي نظام الحسن الثاني، ويعود، فوق ذلك، إلى تفاصيل تنشر لأول مرة حول التنسيق الذي كان يجري خارج المغرب للإطاحة بالحسن الثاني. - قررت في آخر المطاف أن تعود إلى مقاعد الدراسة رغم أنك كنت تعرف مسبقا أن السلطات الأمنية وضعتك في لائحة المبحوثين عنهم. لم تكن لدي خيارات كثيرة وقتها، فإما أن أبقى متواريا عن الأنظار وتستمر بذلك محنة عائلتي وأضيع ما تبقى من السنة الدراسية، أو أعود إلى مقاعد الدراسة وأتحمل عواقب ما سأفعله، واستقر رأيي في الأخير على أن أواصل حصصي الدراسية. التحقت بمادة الكيمياء العضوية التي كان يدرسها الدكتور الرمضاني، الذي أصبح عميدا للكلية فيما بعد، ووصل الخبر بسرعة البرق إلى مختلف الأجهزة الأمنية. أتذكر أني خرجت من الحصة الدراسية في اتجاه دورة المياه ولم يحدث أي شيء أثار انتباهي، لكن بعد عودتي لاحظت أشياء غريبة تقع داخل المدرج، إذ جلست ثلاثة عناصر بقربي، اثنان بجانبي وواحد من الخلف، قبل أن يعمد أحدهم إلى وضع المسدس على ظهري وأمروني أن أرافقهم إلى سيارة كانت مركونة بالخارج بدون أي مقاومة، لأنني كنت أعلم أنهم قادرون على فعل أي شيء. - ما الذي حدث بعد إخراجك من المدرج؟ وجدت سيارة لا تحمل أي علامة تؤشر أنها للأمن الوطني، ووضعوا كيسا على عيني منعني من رؤية أي شيء، واقتادوني إلى مكان لم أعرفه إلا فيما بعد، لأنني كنت معصوب العينين، وتبين لي أن الأمر يتعلق بمخفر للشرطة، ثم اقتادوني إلى مكان آخر قال لي البعض إنه ثكنة ل«السيمي». في مخفر الشرطة، جرت الأمور بشكل عادي جدا، وأنجزوا لنا محضرا عاديا بأسمائنا وأسماء عائلاتنا فقط. - هل تعرف من رافقك من زملائك؟ لا، كيف أعرف، لقد كنت معصوب العينين ولا أعرف أي شيء مما يدور حولي سوى الأصوات التي سمعتها في مخفر الشرطة، وحتى حينما تم اقتيادنا إلى «قشلة السيمي» بحي لازاري كما قال بعض الأصدقاء، لم أتعرف على هوية الأمنيين الذين رافقوني ولا على نوع السيارة. بعدها وضعت في زنزانة رفقة ثلاثة آخرين هم الوكيلي وعبد الحليم من مدينة بركان، وتلميذ من الثانوية لم أعد أتذكر اسمه. - ما طبيعة التعذيب الذي تعرضت له في «قشلة السيمي» بلازاري؟ هناك الطرق التقليدية من مثل الطيارة ووضع «الشيفون» في الفم. داخل هذه القشلة كان هناك مكان معد خصيصا للتعذيب وكنا نؤخذ إليه كل واحد على حدة، ولم نكن ندرك كم عدد هؤلاء الذين يعذبوننا، كل ما كنا نعرفه أن هؤلاء تنبعث من أفواههم رائحة الكحول وفي بعض الأحيان يشغلون محركا يحدث ضجيجا يزيد من قسوة التعذيب، علاوة على أننا تعرضنا لل «فلقة» عبر تمرير عكاز على أرجلنا-يتوقف البطيوي قليلا عن السرد-. إنهم تفننوا في تعذيبنا وأخضعونا لشتى أنواع التعذيب، وكان خوفنا كبيرا أن يتم اغتصاب مناضلتين هما فريدة ورشيدة من مدينة بركان اعتقلتا في نفس الأحداث. - ما هي الأسئلة التي كان المعذبون يوجهونها إليك، بصيغة أخرى، هل كانوا يريدون معرفة معلومات بعينها عن هوية متزعمي الاحتجاجات بجامعة محمد الأول؟ من حسن الحظ لم أكن أعلم بمكان وجود أصدقائي، ولو كنت أعرف ربما كنت سأخبرهم، من يدري فطرق التعذيب البشعة كانت تحدث آلاما فظيعة جدا. في الحقيقة لم أكن أعرف عن رفاقي في النضال أي شيء ولا عن محل سكناهم. أعود لأؤكد لك أنهم عذبوني بقسوة لا مثيل لها، لاسيما أنهم اعتقلوني بعد الخطاب الشهير للحسن الثاني الذي وصف فيه الريفيين بالأوباش وتوعد فيه المحتجين بأشد العقوبات، زد على ذلك أنني ريفي، وأعترف أن فوبيا كانت تسكنهم حين يعلمون أنك تنتمي إلى الشمال وإلى الريف خصوصا فتلك كانت تهمة كافية للإمعان في تعذيبك. - كم كانت تدوم حصة التعذيب داخل السجن؟ حسب أهواء المعذبين، فقد تدوم نصف ساعة وقد تدوم ساعتين، لا أحد منا كان يتصور ماذا سيحدث له في حصته اليومية. - هل تتذكر لحظة معينة كان فيها التعذيب أشد وأقسى من كل حصص التعذيب التي مورست عليك؟ نعم، كانوا يبحثون عن مناضل اسمه الكواكبي يدرس الفيزياء، وكانت تروج الكثير من الأخبار أنه فر إلى الجزائر رغم أنه لم يكن وجها بارزا في الحركة الاحتجاجية الطلابية. تحملنا الكثير من العذاب بسبب الكواكبي، وكانوا يسألونني كل مرة عما إذا كنت أعرفه معرفة جيدة وعن أصدقائه. بالنسبة للمكان الذي نعذب فيه كان موحشا ومظلما جدا إلى درجة أننا نميز بين النهار والليل عن طريق درجة الحرارة. أمضيت نحو عشرين يوما في مركز التعذيب. أتذكر أيضا أن أوفتيح الذي ذكرته سلفا نال حصة الأسد من التعذيب وكان يصاب بين الفينة والأخرى بأزمات خطيرة لم يستطع جسده تحملها واقترب مرات كثيرة من الموت. - كيف خرجت من مركز التعذيب؟ خرجت نحيلا وفقدت الكثير من وزني رغم أنهم تركونا لفترة لاسترجاع قوانا قبل إطلاق سراحنا لتقديمنا أمام وكيل الملك، الذي لم يجد أي شيء يواجهنا به، أما عائلتي الصغيرة والكبيرة فلم تكن تعرف مكان وجودي ولا ما الذي حصل لي. لم يخبروني أن أمي أصيبت بأزمة حادة جدا لأنها كانت تعاني من مرض السكري، ووالدي أصيب بنوبة بكاء هستيرية بعدما علم أنني عرضت على وكيل الملك. بعد أن عرضنا على القضاء، سنحال على السجن، وهناك التقيت حكيم بنشماس ومجموعة من الأساتذة وتلميذ لا يتجاوز عمره 16 سنة، ووضعنا في زنزانة مع أصحاب السوابق العدلية من قتلة ومغتصبين، وقد تعمدوا ذلك للتشويش علينا وممارسة ضغط نفسي رهيب على كل المناضلين، لكنهم لم يفلحوا في ذلك، وسأشرح لك فيما بعد لِمَ.