يعبر مفهوم الممارسة السياسية عن مجموع التدابير والتصورات والمقترحات والمبادرات التي تتخذها مكونات المشهد الحزبي بمختلف مشاربها وتوجهاتها في تعاطيها مع الشأن العام وقضاياه الملحة على كل الأصعدة، وهو ما يفيد بأن العمل الحزبي يعتبر المؤشر الحقيقي الذي يمكننا أن نقيس من خلال نجاعة العمل السياسي في بلوغ أهدافه من عدمها. لقد شهدت مختلف الديمقراطيات العالمية، منذ كانت، تحولات عميقة كان لها أثر بارز في رسم مواقعها بين الدول، وذلك من خلال احتكامها إلى الممارسة السياسية باعتبارها الأرضية الخصبة لصناعة نخب وكفاءات سياسية بمقدورها التجاوب الدائم والمستمر مع تطلعات المواطن في انسجام تام مع ثوابت الدولة، من جهة، ومع تحديات التعاون الدولي، من جهة أخرى. غير أن ما يمكننا أن نلاحظه في هذا الباب هو أن الممارسة السياسية في مجموعة من البلدان لم تؤسس على معالم واضحة تنبني على المنطق العلمي الصرف، وإنما انبنت على آليات متعددة لتصريف طموحات ساستها ثم التعبير عنها من خلال إطلاق مصطلح "اللعبة السياسية" عليها، هاته الأخيرة التي يمكننا تعريفها بكونها تلك الممارسات غير الدقيقة التي تصدر عن الساسة في تعاطيهم مع قضايا التدبير الحزبي السياسي، وهي غير دقيقة لأنها تكون مشوبة بالضبابية ومتأثرة بأمزجة أصحابها، الأمر الذي جعل منها عرفا جاريا داخل المشهد الحزبي الذي لطالما تم الاحتكام إليه إبان فترة تصريف القضايا المرتبطة بتدبير مناصب القرار الحزبي الداخلي والتي لم تخضع في يوم من الأيام للمنطق الديمقراطي القاضي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع المبنية التي تؤول نتائجها إلى المرشح الأفضل، الذي يكون قد قدم برنامجا انتخابيا واضحا ومقنعا جعله يحوز ثقة الناخبين ويستحق عن جدارة الظفر بالمنصب الحزبي. ليس هناك من ريب في أن الممارسة السياسية في الدول المتقدمة تختلف عنها وبشكل كبير في الدول المتخلفة أو السائرة في طريق النمو، لأنه على الرغم من إمكانية اللجوء دائما إلى توظيف شتى الخدع من أجل الظفر بالمنصب الحزبي فإن بعض الدول المتقدمة قد جعلت من الممارسة السياسية أرضية خصبة للتباري والتنافس الشريف المبني على التحلي بالخلق الحسن والتزام الاحترام المتبادل بين كل المتدافعات والمتدافعين على تصريف طموحاتهم الحزبية، الأمر الذي لطالما نتجت عنه نقاشات فكرية بناءة قوامها استعراض الأفكار المتضمنة في برامج كل المترشحات والمترشحين والدفاع عنها، وذلك في إطار مناظرات يتم تنظيمها بين مرشحيْن أو حتى عدة مرشحين، وأيضا لقاءات تروم إقناع الرأي العام الخارجي بقوة البرنامج في جو مفعم بالروح الوطنية العالية، وتنتهي، في بعض الأحيان، إلى تضامن المرشح الأضعف إقناعا مع من هو أقوى فكرا منه، لا لشيء إلا من أجل ترجمة الفكر المتقدم على أرض الواقع بشكل جماعي تضامني. لعل القارئ يتساءل عن جدوى التطرق لمثل هذه المواضيع من قبل الكاتب، والجواب بسيط.. ذلك أن التجربة الحزبية في بلادنا تجري هي الأخرى في خضم اللعبة السياسية، غير أنها لا تتشابه قطعا مع نظيرتها في الدول الديمقراطية، حيث إن الشاهد على الواقع السياسي الحزبي الحالي تستوقفه مجموعة من الملاحظات التي يمكنه الوقوف من خلالها على مجموعة من الشوائب والكوابح التي لازالت تؤثر سلبا على المردودية المفترضة من وراء الأهداف النبيلة للعبة السياسية، ومن بين هذه المعيقات نذكر على سبيل المثال لا الحصر: - سيادة معطى الكولسة السياسية بدل اللعبة السياسية، إذ إن الكولسة تقوم على تجييش طوابير عريضة من "المحسوبين على المقربين"، لا لشيء إلا من أجل تصريف أجنداتهم الفضفاضة والتي لطالما جعلت من بعض الضعاف زعماء سياسيين، يمكنني أن ألقبهم في مقالي المتواضع هذا ببائعي الأوهام الوردية لعشيرتهم الحزبية؛ - غياب الفكر السياسي داخل منظومة أحزابنا السياسية، والتجربة الحزبية خير شاهد على تفشي معطيي الزبونية والمحسوبية المقترنين باستعمال شتى الوسائل ولو لم تكن نزيهة في سبيل الظفر الغير المشروع على المنصب الحزبي؛ - غياب منطق التداول الحزبي داخل منظومتنا الحزبية، الأمر الذي أفرز لنا ظاهرة التوارث السياسي القبلي، مما نتج عنه ضعف إنتاج النخب السياسية الكفيلة بمواصلة درب الأسلاف؛ - سيادة معطى تفريخ العطالة السياسية المبنية على استقدام سماسرة إلى المشهد الحزبي الداخلي شغلهم الشاغل هو ملاحقة المعارضين لتوجهات "القيادات" المرتبطة بتحقيق مصالح شخصية ضيقة، وذلك رغبة منهم في الظفر بما تيسر من الريع الحزبي الذي أصبح وسيلة مباشرة لتصريف ما أصبح يتعارف عليه داخل أوساطنا الحزبية ب"الطموح"، أي الطمع بتعبير لا مواربة فيه؛ - غياب وحدات للتكوين والتدرج السياسي داخل منظومتنا الحزبية، ذلك أن أغلب المستقدمين لا يعلمون ولو جزءا بسيطا من تاريخ الحزب الذي ينتمون إليه، لا لشيء إلا لأن علاقتهم به انبنت على الرغبة في الربح الشخصي الضيق لا غير... إلخ. إن سرد بعض المشاكل التي لازالت تعصف بمستقبل أحزابنا السياسية، لا يجب أن يفهم منه أن ثمة تحاملا أو مغالاة من قبل الكاتب، ذلك أن هذا الأخير مناضل حزبي يعتز بانتمائه، وهاته الصفة لم ولن تمنعه في يوم من الأيام من تحليل ومناقشة المشاكل التي لازالت تعترض تطوير المشهد الحزبي المغربي، ذلك أن نقد الذات قد أصبح لازمة أساسية لتصحيح مسار التربية الحزبية المبنية على التأطير الذي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نغيِّب عنه الصبغة الإنسانية التي من اللازم أن تنبني على تلاقح الأفكار ومناقشة الفكر المعارض في أفق استثمار المعلومات من أجل استكمال بناء الصرح الديمقراطي في بلادنا. إن البديل لمعضلة الكولسة فارغة المحتوى لا يمكن، من وجهة نظرنا، أن نعوضه إلا بمنطق اللعبة السياسية المبنية على وضوح البرامج من أجل بلوغ ومن ثمة تحقيق الأهداف. لقد آن الأوان لاستنهاض همم كل ساستنا، قواعد وقيادات، من أجل تدشين مرحلة سياسية جديدة عنوانها المصالحة الحزبية الداخلية، وهي المصالحة التي يجب أن تقطع لزاما مع المزايدات الشخصية الضيقة وتمضي قدما في وضع اليد على مواطن الداء من أجل إيجاد الدواء، دواء اسمه نقد الذات الحزبية والعمل على تفعيل آليات التباري الحزبي المبني على التنافس والبقاء للأصلح في إطار اللعبة السياسية. العباس الوردي