هل المغاربة مصابون بعاهة نفسية تجعلهم يحبون ويكرهون نفس المرء فيبنون ويهدمون نفس الهيكل و يوالون ويحاربون نفس المعسكر؟ انعقد أيام 27-28-29 مارس 2009 المؤتمر الوطني السابع للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، بالمكتبة الوطنية بالرباط، تحت شعار (مناهضة الإفلات من العقاب: مأسسة دولة الحق). افتتاح المؤتمر جرى في جو بهي، وتقدمت خلاله رئيسة المنظمة وأعضاء مكتبها الوطني إلى المنصة بخطوات ثابتة، وبثقة في النفس، وبدت على وجوههم آثار الارتياح من حجم الحضور ونوعيته. هذا الحضور يشخص اعترافا بأن المنظمة على العموم، قامت بأداء الرسالة الملقاة على عاتقها، ومارست وظائفها وأدوارها، بشكل مقبول وجيد، ومثل حضور الوجوه الشبابية وتلاميذ الثانويات ظاهرة غير معتادة في مثل هذه المناسبات وهذا يعني أن أثر عمل المنظمة وصل إلى مساحات تواجد واهتمام الأجيال الجديدة، وأن هناك بين صفوف هذه الأجيال، من استرعى انتباهه عمل المنظمة، وعثر فيه على مقومات النجاعة والصدقية. الملامح الأولى للافتتاح تشي بأن المنظمة المغربية لحقوق الإنسان قد نجحت في اختبارين اثنين واجهتهما: الاختبار الأول «خارجي»، متعلق بمدى الاستقلالية إزاء سلطة حكومية، تشارك فيها أطراف مؤسسة للمنظمة لعبت الدور الأبرز في هيكلتها، وكان لها الوزن الأرجح في تشييد صرحها ومد إشعاعها. فمن المعلوم أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على وجه الخصوص، كان له نصيب الأسد في عملية بناء المنظمة في زمن كان الحزب فيه يحتل موقع المعارضة. لكن بعد انتقاله إلى الموقع الحكومي عام 1998، انبعث التخوف من أن تجنح المنظمة إلى محاباة أو مجاملة الحكومة، فتشذب من شجرة أعمالها كل الأغصان التي يمكن أن تضع في حرج المشاركين الجدد في الحكومة، وتستنكف عن إتيان أي صنيع يرى فيه هؤلاء إرباكاً أو إزعاجاً ل«التجربة»، حتى ولو كان مما تستلزمه موضوعياً وظيفة المنظمة الحقوقية. بعد 2007، ورغم بقاء الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، فقد أصبح بإمكان المنظمة المغربية لحقوق الإنسان أن تتنفس ملء رئتيها، فحديثها عن الخروقات لن يزعج الاتحاد ولن يعتبره خروجاً عن اللياقة في التعامل مع مناضلين تقدميين قدموا تضحيات جمة للدفاع عن حقوق الإنسان، واختاروا من خلال «التناوب» طريقا شاقاً ومليئا بالألغام لخدمة نفس القضايا، من موقع جديد. الاتحاد الاشتراكي اليوم استرجع جزءاً أساسياً من حريته في التنديد بالخروقات، وأيا كان موقفنا من الموقع الذي اختاره لنفسه والذي يشبه المنزلة بين المنزلتين، فإن الحزب يبدو أكثر حماساً للتجاوب مع مبادرات وعمل المنظمات الحقوقية، وهذا ربما هو الذي يفسر ثقل التمثيلية الاتحادية في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. إن الخلاصة التي انتهى إليها تحليل المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، بخصوص الوضع الحقوقي بعد عشر سنوات من انطلاق مسلسل ما سُمي ب«الانتقال الديمقراطي»، لا يمكن أن تكون موضوعاً لتضايق القيادة الاتحادية أو انزعاجها، بل إن خطابها الجديد يلتقي مع عموم فحواها. والخلاصة المشار إليها نجدها مثبتة في كلمة السيدة آمنة بوعياش، رئيسة المنظمة، خلال افتتاح المؤتمر، والتي تعتبر أن «الديناميات المجتمعية التي أطرت العشر سنوات الأخيرة»: «أسفرت عن مكتسبات هامة يشهد بها مختلف الفاعلين». «غير أننا، وبموازاة تحققها، نلمس الهشاشة التي تطال العديد من هذه المكتسبات، والتي تعكس أزمة فعلية..». هناك إذن وضع حقوقي محكوم بنوع من الازدواجية المتجلية في تحقق مكتسبات مهمة، من جهة، وفي وجود هشاشة ترخي ظلالها على تلك المكتسبات إلى حد خلق أزمة فعلية في تدبير حقوق الإنسان وتعزيزها، من جهة أخرى. الاختبار الثاني الذي واجهته المنظمة «داخلي» ذو علاقة بتسيير دواليبها وأجهزتها، ويتمثل في مدى النتائج التي يمكن أن تفضي إليها قيادة امرأة لمنظمة حقوقية في المغرب. في الأصل ما كان لهذا الاختبار أن يُطرح لو كنا في مجتمع يسلم مسبقاً بأهلية النساء لتولي جميع المهام التي يتولاها الرجال. ولهذا فقد كان هناك ترقب خاص لنوع الحصيلة التي ستسفر عنها مرحلة ولاية السيدة بوعياش، وظهر للعيان أن النتيجة كانت إيجابية عموماً، وتم تجديد الثقة في رئيسة المنظمة لولاية ثانية. ومثل هذه الخطوات من شأنها بكل تأكيد أن تعزز مسار النضال من أجل المساواة بين الجنسين في المغرب. هذا، وجذير بالذكر أن الجلسة الافتتاحية لمؤتمر المنظمة السابع، تميزت بمشهد سيظل ممهوراً في ذاكرة كل الذين حضروا الجلسة، ويتمثل في الحفاوة التي استُقبل بها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي من طرف الجمهور الحاضر، والتي قل أن يحظى بها زعيم سياسي في محفل حقوقي. تردد اسمه أكثر من مرة، وصفق الحاضرون بحرارة لذلك، وتحلق الشباب حوله، وأصر الكثيرون على أخذ صور معه، وعانقه بعضهم. ورغم حضور قيادات سياسية ورسمية، فإن عبد الرحمان اليوسفي سرق وحده الأضواء، وشد إليه الأنظار، وكان نجم الجلسة بدون منازع. يمكن تفسير حرارة لقائه برفاق دربه القدامى وأصدقائه وأحبته، بأنها تترجم الرغبة في توثيق العلاقات الإنسانية بعد طول افتراق وتظهر النية في إعادة الدفء إلى علاقة تأثرت في مرحلة ما بالخلافات السياسية وتغير المواقع. ولكن الذي يحتاج إلى تفسير هو رد فعل الحاضرين ممن لم تربطهم باليوسفي علاقة شخصية، ومن الذين يمثل الشباب جزءاً كبيرا منهم. هؤلاء أحاطوا الرجل بمظاهر عطف وتقدير عاليين، وكان مشهداً جميلاً، بطله إنسان جدير بالاحترام. ولكن كيف توصل عموم الحاضرين إلى ذلك؟ هل أدركوه بفراستهم فقط؟ أم أن هناك سراً ما في علاقة المغاربة بعبد الرحمان اليوسفي؟ إن الأمر ربما، يستدعي طرح خمسة أسئلة: -1 هل للمغاربة ازدواج في الشخصية؟ فالمفروض أن أحد الأسباب الرئيسية للعزوف الذي قابل به المغاربة اقتراع 7 شتنبر 2007، هو الحكم بفشل «التناوب»، إذ اعتبر قطاع واسع منهم أن نتائج «التجربة» كانت هزيلة، ودون ما كانوا يطمحون ويتوقون إليه، وأنها لم تحقق الوعد، ولم تحسن الوضعية جذرياً ولم تمنح الحياة السياسية والمؤسسية نفساً جديداً ومجدداً ومهيكلاً ولم تشبع الحاجات، ولم تكن بسعة انتظار عريض، ولم تغير جوهريا وجه المغرب السياسي. فكيف يستهجن المغاربة التناوب وينتقدونه ويتبرمون من حصيلته ويستصغرون دوره في حياتهم ويقيمونه سلبياً، ثم يحتفون في نفس الوقت أيما احتفاء بفارس التناوب ورئيس هيأة أركانه وربان سفينته والوجه الذي ارتبط به أكثر؟ هل المغاربة مصابون بعاهة نفسية تجعلهم يحبون ويكرهون نفس المرء، يبنون ويهدمون نفس الهيكل، يوالون ويحاربون نفس المعسكر، يعشقون ويمجون نفس الأشخاص، يساندون ويعارضون نفس المشروع؟ -2 هل المغاربة ماضويون؟ بمعنى أنهم يقدسون الماضي ويعتبرون كل ما أصبح في ذمته أحسن دائماً من الحاضر. يواجهون تجربة قائمة بالتشكيك والتقريع، ثم يبجلونها عندما تصبح في عداد الماضي. يحسون في كل مرة بأن كل وضع يتوارى فإنه يترك المكان لوضع أسوأ، وبالتالي يدفع إلى الحسرة على ما سبق. هل هناك شعور بأن عبد الرحمان اليوسفي لم يُنصف، وأن ما كيل له من مؤاخذات اتسم بالقسوة والشدة والغلو، هل يقارنون بينه وبين الوزير الأول الحالي ويخرجون من المقارنة بتفضيل الأول على الثاني، فينتابهم نوع من الحسرة والندم؟ -3 هل يعتبر المغاربة أن المشاركة الاتحادية في الحكومة التي تمت إلى حدود 2002 والتي كان اليوسفي مسؤولاً عنها وحدها في نظرهم، مشاركة ضرورية ومحل تأييد واعتبار، وأن المشاركة التي تلتها كانت الأساس في الغضب والسخط الذي عم الناس، حيال الاتحاد الاشتراكي، إذ قدروا ربما أن استمرار الحزب في الحكومة لم يكن مقنعاً ولم يكن ضرورياً، بل نجم عن نزوعات مصلحية ضيقة ولم يخدم مصلحة الديمقراطية في البلاد، ومثل تخلياً عن الرسالة والأهداف التي حددتها التجربة لنفسها في المنطلق. بمعنى أن الناخبين لم يعاقبوا الاتحاد الاشتراكي على ركوبه قطار المشاركة، بل عاقبوه على الاستمرار فيه بعد 2002، واعتبروا أن اعتزال اليوسفي يمثل رفضاً لهذا الاستمرار، وبالتالي ظلوا يبحثون دائما عن شكل التعبير عن تزكيتهم لهذا الموقف. -4 هل يعتبر المغاربة أن اليوسفي يستحق، في كل الأحوال، التنويه بشجاعته الفكرية وصراحته السياسية؟. فالرجل بعد خروجه من الحكومة لم يلذ بالصمت ولم يختر التكتم على الحقائق التي وقف عليها والمصاعب التي واجهها، فوضع النظام السياسي برمته على مشرحة النقد والتحليل، وشخص عيوبه ونقائصه ونبه إلى أعطابه وعلله. هل تكون الرسالة التي وجهها اليوسفي عبر محاضرته ببروكسيل وعرضه أمام اللجنة الإدارية للاتحاد الاشتراكي في 2003، قد وصلت، وفهم المواطنون، أو الأكثر استنارة منهم، فحواها ومغزاها وثمنوا مسلك اليوسفي الذي لم يخش في الصدع بالحق لومة لائم، والذي قال ما يجب أن يُقال، في الوقت المناسب، ودون أن يحيل ملاحظاته على مذكرات تُنشر بعد سنوات طويلة. أعلن اليوسفي بصراحة أن نظامنا السياسي يعاني من ثلاثة اختلالات أساسية وهي: أ- الازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الحكومة، ب- افتقار الجهاز الحكومي إلى السلط والوسائل الكافية لتطبيق برنامجه، ج- تقييد العمل الحكومي بتقاليد عتيقة. بمعنى أننا في نظام شبه مغلق، حتى وإن بدا منفتحا من الناحية الظاهرية، يضعك في منصب المسؤولية ولكنه يزيح من بين يديك كل خيوط الحسم والتوجيه . -5 هل للمغاربة موقف «استشهادي»؟ أي أنهم يتعلقون بنموذج الساسة الذين يغادرون ويرحلون، ويترجلون من على أحصنتهم، و»يقلبون الطاولة» ويعتزلون، ويخرجون من الملعب. هل يعتبر المغاربة أن موقفهم من التناوب شيء وموقفهم من عبد الرحمان اليوسفي شيء آخر، وأن كل غضبهم على التناوب كان يمكن أن ينصرف إلى شخص اليوسفي أيضاً لو لم ينسحب. فموقف الاعتزال «الاستشهادي» أعاد إليه ما كان قد فقده أو على وشك أن يفقده. هل هذا الموقف الاستشهادي الكامن في لاوعي المغاربة، هو الذي يجعل بعض الصحفيين مثلاً، وهم يتحدثون عن مشاركة المناضل محمد بنسعيد آيت إيدر في تظاهرة تضامنية مع المعتقلين السياسيين الستة في ملف بلعيرج، يذكرون بأنه اعتزل السياسة، فكأنهم لا يتصورون اليوم بأن رجلا بهذا النقاء والنزاهة لازال يتواجد ضمن قبيلة السياسيين ويمارس العمل السياسي، بينما الرجل عضو منتخب في المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد وعضو بإحدى اللجان الوطنية وينفذ باستمرار مهام نضالية باسم الحزب. وكأن اعتزال اليوسفي طهره من كل وحل التجربة وأكسبه مصداقية جديدة. إننا إذن نصفق للقادة السياسيين الذين يغادرون المجال السياسي الملطخ. ورغم أن استقالة اليوسفي واعتزاله كانا مبررين ربما بحكم الظروف الصعبة التي كانت سائدة بالاتحاد الاشتراكي والتي لم تكن تترك له هامشا كافياً للحركة، فإن استمرارنا في إبداء طلب عام على الاستشهاد السياسي بواسطة الاستقالة والمغادرة والانسحاب، معناه أن تترك الساحة السياسية لمزيد من التلوث في انتظار التحلل المطلق أو الطوفان.. يمكن أن تكون الاستقالة مبررة وضرورية في ظروف محددة، ولكن التلوث الذي يطبع الجو السياسي يطرح على السياسيين النزهاء أن يبحثوا عن الطريقة التي تجعلهم يستقيلون من السياسة المغربية كما هي اليوم، لا أن يستقيلوا من السياسة!