فيما مضى، كانت قدوة ومنارة مدينة مراكش مبارزات شعرائها ومجادلات فقهائها وعلو كعب فلكييها وحكمة ووقار صلحائها وقوة نبوغ علمائها الذين كانوا يرفعون مرتبة المدينة إلى مستوى مدن دمشق وبغداد وقرطبة والإسكندرية وأصفهان في سيولة العلم والمعرفة وإنتاج الحضارة وطغيان مجالات النبوغ في الصنائع اليدوية والذهنية حتى ضاقت مقابر المدينة الحمراء بقبور العلماء والشعراء والفلكيين وقباب المتصوفة وأمراء وسلاطين جميع السلالات التي حكمت المغرب الأقصى والأندلس. اليوم، أكثر شيء يملأ ساحة المبارزة في عاصمة مُلك المرابطين والموحدين هو تباري البذخ ومنافسة الثراء لبعضه البعض، حتى ليُخيَّل للعابر والزائر والساكن بمراكش أنه يكفي أن تبيت بالمدينة وتفيق حتى تجد تحت أقدامك زرابي مبثوثة بعملة الأورو وعلى يمينك ويسارك ما شئت من سيارات الترف الزائد ومجوهرات الياقوت والماس وأزياء دور باريس ولندن، ودعوات عشاء خاصة لسهرات مشاهير القنوات التلفزيونية الفرنسية. كل من ينجذب اليوم مجانيا إلى بذخ الأسماء التي تحل بمراكش لأخذ قسطها من الترف وسخرة المغاربة في الفنادق والروض العتيقة بكثير من المظاهر والاستيهامات الثقافة الكولونيالية المستترة وراء ابتسامة ماكرة وافتتان بالمكان، لم يقرؤوا ويطلعوا على تاريخ مدينة كانت محجا ومزارا وموطئ قدم لأسماء أعلام، وليس لنكرات كل ما في بطاقة شرفهم عقارات وأرصدة بنكية يعلم الله وحده مصدرها، ووحده عباس بن إبراهيم المراكشي، الذي لا يذكره أحد اليوم، من أرخ لمن عاشوا وعايشوا المدينة الحمراء في كتابه التحفة «الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام»، الذي طبع في 10 مجلدات بالمطبعة الملكية بالرباط سنة 1974، وفي نسخة أخرى سنة 1976 بتحقيق من المؤرخ عبد الوهاب بن منصور. أغنياء وأثرياء البذخ بمراكش حولوا المدينة الحمراء هذه الأيام إلى طاولة خضراء في مسابقة للقمار بلعبة «البوكير» الورقية، فعلى عدد كبير من مواقع الأنترنيت المتخصصة، تم الترويج والتسويق لهذه المسابقة الدولية التي احتضنها أحد أفخم وأشهر فنادق مراكش على الإطلاق، وتم خلالها سكب عدد ضخم من السيولة النقدية بالعملة الأوربية الصعبة لأجل وريقات رابحة أو خاسرة، وفي عز الأزمة العالمية التي تجعل مثل هذه التظاهرات تختفي وراء مدن بعيدة عن أوربا حتى لا تثير سخط وغضب الشارع والمعطلين، وهنا يلجؤون إلى مراكش تماما كما يلجؤون إليها طوال السنة لتصوير أفلامهم الجنسية بأقل كلفة ولاغتصاب الأطفال مع متابعة قضائية تنتهي بالغرامة، أو بالسراح لعدم كفاية الأدلة. «البوكير» لأغنياء العالم بمراكش، و«الضاما» لبسطاء المدينة ممن أنهكتهم البرودة والحر على أطراف أسوار الموحدين والمرابطين الآيلة للسقوط، أو بأحقر وأوسخ مقهى يتزاحم فيه بعض المراكشيين لتمضية الوقت، فيما علية القوم تلعب جولة واحدة من «البوكير» في قاعات مكيفة وسط نادلات بأجساد عارضات الأزياء، بقيمة رواتب 50 متقاعدا مراكشيا، فقط في جولة واحدة، لا يهم إن خسرها أم ربحها، المهم أنه بذرها، ببساطة لأن من «يشيط عليه الزعفران كاي يطبخو مع الباربوش».