إن تحول السلطة لا يعني فقط تغيير الأعراض كماحدث في تجربة التناوب عندما سمح لمعارضة البارحة بأن تكون مجرد أداة على بعد أشهر قليلة ستحل بالمغرب مناسبتان، الأولى هي الانتخابات الجماعية والتي سيخوضها المغرب على إيقاع تقطيع ترابي جديد ولاعبين حزبيين جدد ومدونة انتخابات جديدة، أما الثانية فهي انصرام العشرية الأولى من العهد الجديد، وبالقياس إلى حجم المبادرات التي شهدها هذا العهد وتنوع مجالاتها، فإن هاتين المناسبتين ستكونان محايثتين لنقاش سياسي وطني حول الثابت والمتحول في السلطة، صحيح أن هذا النقاش يعوقه استفحال ظاهرة عزوف المواطنين عن الحياة السياسية واستمرار مسلسل البلقنة الحزبية دون توقف، غير أنه سيستفيد من مناخ الانفتاح النسبي الذي سجله المجال العمومي الوطني، بعد عقود كان فيها المجال العمومي حكرا على الملك/الدولة على لازمة لويس الرابع عشر، ثم دخول الصحافة المستقلة على خط هذا النقاش، لذلك فإن القصد من هذا القول هو أن نجيب عن تساؤلات تستمد راهنيتها من الإشكالات التي لازالت تطرحها السلطة في العهد الجديد؛ أهمها؛ هل سنشهد تحولا حقيقيا في شكل السلطة بالمغرب، تكون فيه مناسبة الانتخابات الجماعية مدخلا لجهوية حقيقية، وما تقتضيه من انفتاح على الموطن وقضاياه؟ ثم هل ستكون مناسبة الاحتفال بالعشرية الأولى للعهد الجديد، مناسبة للدفع بإصلاحات دستورية تعزز دولة المؤسسات بعيدا عن النوايا الطيبة؟ أم إننا سندخل العشرية الثانية على نفس إيقاعات الالتباس السائدة اليوم؟ لا شك في كون الالتباس هو المناخ الأنسب للتسلط والهيمنة حين لا تكون السلطة مبنية على تعاقدات واضحة دستوريا، فحين يسود الالتباس وتكثر مناطق الظل والعتمة وينتشر السديم في زوايا الحياة السياسية، فإنه من الطبيعي أن ينتعش العسف والتسلط عند الحاكم، وتنتشر قيم الوصولية واللامبالاة عند المحكوم، وهذه هي لازمة كل قول يروم تشخيص السلطة في مغرب اليوم. فإذا كانت الدولة الحديثة استطاعت أن تقضي، إلى حد كبير، على مناخ الالتباس هذا بسنها قواعد شفافة للتداول على السلطة وسيادة القانون ومؤسسة العدالة الاجتماعية وإرساء قيم المواطنة، ونالت بهذا إجماعا لم يتحقق للأنبياء في تاريخ البشرية، فإن مغرب اليوم لازال لم ينعم بعد بهذه النعمة، مما جعله مجالا لصراع التأويلات المناقضة لدرب الدولة الحديثة، ووجه الالتباس هو أن قواعد السياسة فيه ملزمة للجميع إلا النظام ذاته فهو غير ملزم بها إطلاقا، باسم الحداثة أحيانا وباسم الخصوصية المغربية أحايين كثيرة، لا أدل على هذا من أن كل التحولات التي شهدتها الدولة في تدبيرها للمجال العمومي، سواء في المجال الحكومي أو الحقوقي، بقيت سجينة للإرادة الطيبة التي أبان عنها النظام أكثر من مرة. ولأنها بقيت فقط نوايا، فإنه لا أحد من اللاعبين السياسيين يملك الجرأة على المطالبة بتعديلات دستورية واضحة اللغة، تستوعب هذه «الإرادة الطيبة» وتجعلها منطلقا لتعاقد سياسي عملي يطمئن الجميع، حتى لما اقترح حزبا الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية. فتح نقاش حول الحاجة إلى تعديل دستوري، فإن الرد لم يأت من النظام بل أتى من حزب يقود حكومة تجسد فعليا هذا الالتباس. وطريقة الفاسي وصهره في الرد على هذه المبادرة، على خجلها، تعبر فعلا عن أن هناك دوما من يستفيد من العتمة، وإلا هل كان عباس الفاسي وآله على يقين من أنهم سيقودون الحكومة حتى بعد تأكد فوزهم في الانتخابات؟ هل للفاسي أن يدلنا على نقطة واحدة في برنامجه الحكومي تجسد فعلا استقلالية قراره واستحقاقه لثقة الجموع التي انتخبته؟ بم يفسرون الشك الذي راود الجميع تجاه تعيين وزير أول حزبي؟ وفي مستوى آخر، من يستطيع أن يقبل التبسيط والتسطيح الذي قدمت به انتقال السيد الهمة إلى العمل الحزبي، مع أنه سيكون لاعبا أساسيا في الانتخابات المقبلة؟ إن ميزة نظام القرن الماضي هي أنه كان ذا إجماع ميكيافليي واضح المعالم، فحين كانت محبة الناس غير متيسرة له، وما ذكرى 23 مارس عنا ببعيدة، فإن تخويف الشعب من السياسة وترهيبه من الخوض في قضايا الشأن العام، لم يكن قط ليخطئ غايته، بتعبير ميكيافيلي ذاته في الفصل التاسع عشر من «الأمير»، غاية ضمان ولاء «الرعية» وإجباره على التعلق بأهداب عهد ميتاتاريخي لا مجال فيه للتراجع، وفعلا لم «يخطئ» ميكيافيلي ولم يخطئ من لازالوا أوفياء لتعاليمه في القرن العشرين، ف«المغربي إذا خاف تعقل» حسب ما صرح به الملك الراحل في ذاكرته. صحيح أن التحول الذي شهدته السلطة في العهد الجديد، والمتمثل في مبادرات «المفهوم الجديد للسلطة» و«مسلسل الإنصاف والمصالحة» و«التناوب التوافقي» وغيرها، لا يمكن لمن ذاق مرارة ميكيافلية القرن الماضي أن ينكر شجاعتها، فهو تحول أدى فعلا إلى حلحلة نسبية للوضع، لكن هل هذا هو سقف المأمول في مشهدنا السياسي؟ هذا ما لا يمكن لأي كان مهما كانت مخزنيته أن يدافع عنه، ويكفي أن نستدل على هذا بكون كل المبادرات المشار إليها أعلاه لازالت لم تتخذ مضمونا دستوريا حتى نضمن فعلا ما سمي ب «ضمانات عدم التكرار»، بل بقيت محض نوايا طيبة. إن من يقرأ كتاب «تحول السلطة» لألن توفلر، يجد نفسه إزاء حقائق كثيرة، تتعلق بالأشكال المقبلة للسلطة في العالم، حقائق أغلبها صادم لنا نحن مواطني الأنظمة العتيقة، والأهم هو أنه في غمرة كل التفاصيل والإيقاعات التنبئية التي يفرضها الكتاب على أفهامنا، فإنه لا يمكننا إلا أن نقلق على حالنا في المغرب لأنه فعلا «اللعب قاصح علينا»، بالتعبير الدارج، ففي خضم هذا التحول تصبح للسياسة حدود أخرى وقواعد مغايرة تماما لما ألفنا سماعه منذ عقود عن الخصوصية المغربية.. كذا، لأنه عالم ما بعد السياسة. إن التحول في جوهر السلطة عند توفلر، إنما يقصد به الأهمية المركزية التي ستغدو لعالم المعرفة في تكوين السلطة، فكما كانت لأباطرة العصور الغابرة استراتيجيات للحصول على السلطة والمحافظة عليها، فإن الإمبراطوريات الجديدة ستعتمد على مفهوم جديد للسلطة سيؤسس بالكامل على العقول المفكرة والمبدعة، وليس على العقول المنضبطة والخائفة كما نجد عند «أمير» ميكيافليي. وعندما نقول العقول المفكرة فإننا نقصد طبعا العقول المتنورة والمرنة، والتي ستكون المنبع الواعد لكل إستراتيجيات السلطة، فمن سيخلق المعرفة ويبدعها وينشرها ويوسعها، ستُخلق لديه دوافع لخلق أنماط جديدة من السلطة أوسع من حيث الممارسة وأنفع جدوى من حيث السيطرة والاحتكار، أما المطمئن لموارده الطبيعية أو رأسماله الثقافي وإرثه التاريخي، فإنه لا مكان له في عالم توفلر. غير أن السؤال الذي يواجهنا بهذا الصدد هو: هل الزمن المغربي اليوم هو زمن توفلر؟ هل التحولات التي عرفها تدبير المجال العمومي بالمغرب في العقد الأخير هي نفسها التي يقصدها توفلر؟ إن تحول السلطة عند توفلر لا يعني فقط تغيير أعراض الوجوه والتسميات، كما حدث في تجربة التناوب، عندما سمح لمعارضة البارحة بأن تكون أداة تستمد منها السلطة القديمة/الجديدة مشروعيتها، دون أن تؤدي لتغيرات فعلية في اتجاه تحقيق الحد الأدنى من التعاقد الذي طالبت به هذه القوى سابقا: استقلال القضاء وترسيخ دولة المؤسسات، إعمال دولة الحق والقانون..، غير أننا إذا انتبهنا مثلا إلى كيفية استئثار المعارضة السابقة بوظيفة الناطق باسم الحكومة على رمزية المنصب، سواء مع حكومة «منتخبة» مع اليوسفي والفاسي حاليا، أو لما كانت حكومة تقنوقراط مع جطو، فإننا إزاء هذا التحول غير المفهوم عند عموم المواطنين نتساءل، ما هو سر هذا السحر الذي حازته سياسة ما بعد سنوات الرصاص وجعلها تحقق كل ما لم يستطع قمع سنوات الرصاص تحقيقه؟ ما سر التركيبة السياسية التي ستجعل معارضة الأمس تدافع عما كانت مضطهدة من أجله في السابق؟ لم يخطئ ميكيافليي مرة أخرى عندما عرف السياسة بكونها فن الممكن.. لا شك في أن توفلر كان أحد المراجع التي اعتمد عليها من أبدعوا ما عرف في المغرب ب«مفهوم الجديد للسلطة»، تماما كما كان مرجعَ من وضعوا برامج إصلاحية أخرى أهمها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. غير أن التحدي الأكبر الذي يواجه هذين المشروعين، ويواجه بالتالي فلسفة السلطة المعاصرة هذه، هو أننا في المغرب لم نتجاوز بعد عتبة الإشكال السياسي، بل إن المعرفة لازالت خاضعة عندنا للقرار السياسي، سياسي آخر من يقرأ وأول من يُقرر، وهذا هو جوهر الالتباس. وبما أن السياسة هي علم ممارسة السلطة أو هي علم الدولة، فإنه حين لا تكون قوة الشرعية والسيادة التي تتمتع بها هذه السلطة موضوع تعاقد شعبي متجدد ومرن، فإنها تصبح فعلا امتدادا للبندقية حسب التعبير الماوي الشهير، فتتناسل أشكال متعددة من الالتباس المفضي إلى الانتهاك. وبما أن السياسة كما أشار إلى ذلك الأستاذ الجابري، هي مفتاح لفهم كل نسقنا الثقافي والديني والقيمي، وبما أن اللحظات الحاسمة في تحولات الدولة عندنا، لم تكن تحددها المعرفة حسب تنبؤ توفلر، وإنما كانت تحددها السياسة، فإن التباس المشهد السياسي المغربي يلقي بظلاله على باقي أنساق الحياة الاجتماعية ككل، فيصبح التباس الحياة السياسية سببا موضوعيا في التباس الحياة الثقافية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية.. وباختصار، تصبح السياسة مشكلة بدل أن تكون حلا، فمن الداخلية والتعليم والصحة مرورا بالاستثمار والسياحة والنقل والتجهيز والعقار.. سرطان واحد؛ التباس المشهد السياسي، ومن لم يدرك بعد هذا الالتباس ننصحه بمراجعة قواه العقلية كما نقول دوما في وضعية كهذه.