لم يأت العنوان الذي وضعته القاصة فاتحة الطايب لمنجزها القصصي موسوما ب»حكاية تبحث عن عنوان»؛ من قبيل المصادفات أو الاختيارات الاعتباطية، بل جاء إعلانا عن نوايا اتصالية توجه فعل التلقي انطلاقا من المشير الأولي الأقوى حضورا؛ وهو العنوان؛ وانسجاما مع تصور خطابي يروم تأسيس رؤية مختلفة في التعامل مع الجنس الأدبي؛ وكأنها ترى أن الإيمان الهجاسي بأسبقية الشكل والتفكير فيه يشكل أكبر عائق أمام الموهبة في بناء الحكي وفق ما تتطلبه البنى القيمية والدلالية التي يقترحها النص وصاحبه وسياقه معا. هل من الضروري أن يستفتح القاص نصه بعنوان؟ وهل من المفروض أن يكون العنوان خبريا أو إنكاريا أو استفهاميا؟ ومتى نقول هذا عنوان جيد، وهذا عنوان غير لائق أو غير مواتٍ للنص؟ وهل يقدم العنوان خدمة للنص والقارئ أو لفعل التواصل بين قطبي القراءة؟ أليس من الأجدر أن يفصح النص عن ذاته، بدل أن تنوب عنه مشيراته الأولية التي غالبا ما تكون في النص الحديث مضللة؟ وهل يقوم العنوان وما معه من مداخل إشهارية كاللوحة وصورة الغلاف بدعوة القارئ لاقتحام النص، وإثارة اهتمامه وشد شهيته للقراءة؟ وما الذي يسبق من حيث التواجد: النص أم عنوانه؟ كل هذا البحر من الأسئلة وغيرها تراود القارئ وهو يتأمل العنوان الذي اختارته الكاتبة لمنجزها القصصي الأول. وهذه الأسئلة بقدر ما تراود المتلقي إبان تفحصه أوليات النص وعتباته الأولى، بقدر ما تكون هجاسية الصوغ لدى الكاتبة إبان التخلق الأول للنصوص أو لنقل: للمجموعة ككل. وهي أسئلة ملحاحة توحي بأن المبدعة مشدودة إلى فعل الحكي، وبنفس القدر مرتبطة بسؤال كينونة النص وأدوات تمثله واستيعابه لشكل السؤال وهوية الفكرة ونوعية الرسالة. أي أنها تكتب، وأناملها المبدعة موصولة بفكرها وأسئلتها النقدية المشاكسة التي لا تطمئن إلى الجاهز من الأنماط أو القوالب، ولا تستكين إلى استعادة التجارب وبديهيات الأفكار والمعاني والأسئلة. لقد تمرست فاتحة الطايب على دراسة المتون السردية، وهضمت قوالبها وأنماطها في إطار الدرس الأكاديمي؛ حيث تدرس لطلبتها الأجناس الأدبية وتوجهاتها الجديدة، وخطاب الشعريات الحديث؛ ونظرية السرديات في انفتاحها على العلوم الإنسانية من سوسيولوجيا ولسانيات وتاريخ وسيميولوجيا. وهذا السبق للوعي النقدي النظري لدى الكاتبة في تجربتها الأدبية والإبداعية سيشكل، دون شك، انتقالا ملموسا على مستوى المنظور الكتابي والرؤية الصوغية لفن القص. إذ تظل القصة لديها مرهونة أبدا إلى السؤال النقدي الذي يبدو أكثر حضورا على مستوى شعرية الخطاب- وجماليته في هذا المنجز. لذلك كانت حيرة المدلول والدال معا هي ميسم النصوص وعلامتها الفارقة. إن جامع كتابتها، وفق هذا النزوع، يؤسس لفكرة الشك لدى القاص في الدلالة والرسالة والصوغ الفني؛ أي أن يكتب الكاتب ما يكتبه، وهو في حل من القوالب الجاهزة والأشكال المنمطة مسبقا. لقد ساهم الوعي النقدي لدى فاتحة الطايب في توجيه تجربة السرد في هذه المجموعة، فجعلها تبدو حبلى بالتجليات التصورية والأطروحية التي تنتقد وضعا وتؤسس لسيرورة وضع آخر ينتحي فلسفة السؤال بدل الاطمئنان إلى النظرة الجاهزة للعالم والأشياء والقيم استنادا إلى السائد من العوائد والموروثات، وكأنها، بهذه التجربة المخاتلة، تدعو الكتاب إلى الخروج من قوقعات التقليد، وترك النص يشكل ذاته بدل خنقه بالقوالب المشيدة سلفا. وبالنظر إلى كون الإبداع هو ما يغني النظريات الأدبية والنقدية، وثراءه وتعدده هما ما يجعلان هاته النظريات دائمة التطور والدينامية، فالنقاد يبنون أحكامهم وتصوراتهم انطلاقا من خبرات قرائية لنصوص كثيرة، أما، في حال العكس، أي الارتهان إلى الجاهز من الأدبيات النقدية فهو لا يولد سوى الاجترار والتقليد وإنتاج الأفكار والتصورات ذاتها، الشيء الذي يتنافى مع منطق العالم وبديهياته اللامستقرة. وانبثاقا من هذا المنظور، سأرصد أثر هذا التنازع الذي يتملك الذات المبدعة، من خلال تجربتها الأولى، عبر نصوص المجموعة، مبرزا المظاهر التي يبرز فيها الاشتغال التجريبي للمفهومية في السرديات، حيث تتحكم في بناء نموذج النص القصصي مجموعة من المفاهيم النقدية البؤرية النابعة من قناعات المبدعة وتوجهاتها الأدبية، واختياراتها التصويرية التي ظلت حاضرة عبر هذا المنجز من أول عتبة حتى آخر بصمة سردية لها. وهي منطلقات تعقد من وضعية تلقي هذه المجموعة، حيث يقتضي التفاعل مع هاته التجربة الإلمام بمكونات السرد وأساليب صوغه ومنظوراته وخطاباته المتعددة، بمعنى أن الكتابة هنا تراهن أيضا على تشغيل القارئ وإشراكه في التصورات النقدية ومشاطرته الأسئلة القيمية والجمالية التي تؤرق الكاتبة وسياقاتها المحيطة بالتجربة؛ وكأنها تريد من النص القصصي أن يحيّر قارئه، ويشحنه بالتساؤلات ويربك طمأنينته عوض أن يقدم له متعة جاهزة كسلى. لقد سبقت الإشارة إلى أن تقويض شكلية العنونة أول علامات هذا التمرد على النمط التقليدي في بناء النصوص: لقد حافظت الكاتبة على وجود العناوين، غير أن بنيتها ودلالتها معا يهجسان بالأفق الساخر لتواجده الشكلي على هامش النص. وهو أول إعلان تعاقدي مع القارئ بضرورة تقبل نصوص غير مهادنة تبرز تباشيرها منذ العتبة الأولى، منذ باب الولوج. إن المجموعة لا تبحث عن عنوان؛ ولا حاجة لها به، إنما تبحث، مع سبق الإصرار والترصد، عن هوية شكلية جديدة، عن موطئ قدم وسط هذا الحشد من الأنماط المتكررة، عن تأشيرة اعتراف المرور إلى المشهد المطمئن للأعراف. وتتجذر هذه الملاحظة بالنظر إلى طبيعة تشكيل الغلاف، سواء كان ذلك من اقتراح الكاتبة وبإشراك منها، أو كان ناجما عن تصرف وقراءة الناشر: فاللوحة بدل أن تأخذ حيز الوسط، صعدت إلى الأعلى في تواز مع اسم المؤلفة، فيما توسطت المؤشر الجنسي الغلاف، أما العنوان فانحدر إلى موقع أسفل الصفحة متخذا صيغته المفتوحة. وتبدو المشاكسة النقدية التصورية، أيضا، إذا ما تأملنا طبيعة النص القصصي في هذه المجموعة؛ خاصة على مستوى البداية والنهاية في الحكي: إن القصة، وفق النموذج النصي هنا، تنطلق مباشرة من نقطة متقدمة في الحكي، وكأنها مبتورة من الأول والآخر. فهي تضع قارئها مباشرة وسط سياق المحكي، وتحشره في وسط الحلبة دون مقدمات ولا تمهيدات توصيفية للشخوص أو المكان والزمن كما هو معتاد في بنية النص القصصي (وضعية بدئية (حالة توازن) – وضعية مأزومة (حبكة، العقدة)– وضعية نهائية (الحل، المكافأة)). وتحتفظ الكاتبة، فحسب، ببدن النص داعية، بذلك، المتلقي إلى تحريك مخيلته الكسلى وتشييد عوالم النص؛ وفق ما يراه مناسبا لثقافته، بدل تلقي عوالم مشيدة سلفا من قبل الرواة. إن القصة، بهكذا بناء، تحرم المتلقي من نكهة الطمأنينة والمتعة الكسلى وتسعى، بوعي مسبق ومقصود، إلى تشويش معتاده التخيلي الذي سيستسلم للجاهز والبدهي. إذ ما قيمة القراءة كفعل وكممارسة، إذا لم تحرك أشجان القارئ، وتشغل ذهنه، وتشحنه بالأسئلة النقدية من أجل إعادة النظر في المسلمات التي تأسست وفق التراكم الاعتيادي الطقوسي؟ تقول الراوية في بداية أحد النصوص: «لم يجرؤ أحد منهم على خرق الصمت» (ص.61)، وتقول في النهاية: «للحكمة، فعلا، رؤوس مخصوصة تنبت فيها» (ص. 63). فمثلما أن القارئ يشعر بأن النص لا بداية له، يخرج من حلبته في الأخير وهو يحس بأنه لا نهاية له، وما على القارئ إلا أن يؤسس مقروئيته الخاصة لبداية النص ونهايته، بل أيضا لوسطه، بحكم أنه مطالب بإعادة تشكيل صياغة مفترضة له تنسجم مع البداية والنهاية اللتين يقترحهما. وتتعمق، عبر المتن، الرؤية التجريبية في تكسير خطية السرد وترتيب الأحداث، حيث لا وجود لنظام قار يؤثث البنية. وغالبا ما يثور الرواة على السرد نفسه، فتصبح الكتابة أقرب ما تكون إلى التأمل الفلسفي والنقد المقالي للظواهر، خاصة لمّا تجعل الراوية نفسها شخصية تقتحم حلبة الصراع راسمة بذلك حدود التوزع وامتلاء الحدث ونزول الفكرة وتحرك الشخصية وأفق التحول من حالة إلى حالة، مصورة نفسها «إلها» يتحكم في العوالم، ويكبس أنفاس الشخوص ويوجه أفكارها وحواراتها (التي تكون نادرة). وهذا الوضع الذي تبرز فيه الراوية يخدم فكرة مفادها تقزم الشخصية الإنسية، وتنميط فكرها، والدوس على القيم الجميلة التي يمليها الطابع البشري، حيث أصبح الإنسان مجرد شيء في عالم تحتكر فيه المادية كل المجالات، وتنتهك التشييئية مختلف أنشطة البشر، ملتهمة بذلك كل ما يحفظ صورة البشر داخل عالم يتعقد يوما عن يوم، معلنا (نهاية الإنسان) و(موت المؤلف)، واقتراب نهاية الكون، وما إلى ذلك من الرؤى النسقية... ولم تسلم اللغة نفسها من هذا الدفق النقدي. إذ ترى المجموعة، انبثاقا عن أسلوب تعاملها مع اللغة، ألا تفاضل بين اللغات. أي أن اللغة لا تكتسي أهميتها إلا داخل منطوقها النصي؛ وأن للشخصيات القصصية الحق في انتقاد اللغة التي تحوي أفكارهم ورؤاهم، وتجسد العوالم وفق منظوراتهم؛ ما دامت اللغة أنظمة تواصلية تختلف باختلاف المجموعات البشرية؛ حسب ثقافتها وهمومها وأسئلتها التي لا تتشابه البتة. فالنص مثله مثل العالم من حقه أن يتسع لكل الفئات والأقليات والأعراق والمجموعات. إن اللغة غير مقدسة هنا، ولا هي محتفظة بنقائها: إذ تتجاور اللهجة والفصحى، الأجنبية والمحلية في تعايش تام دونما إحساس بالنقص أو الدونية. ومن نماذج هذا التجاور: العامية المغربية (المكتاب ما منو هروب)، الأمازيغية (أقمو نينان سوظ إسوظ)، الأجنبية (Vous n'avez pas le droit de le frapper... La police est en route)، فضلا عن اللغة العربية الفصحى التي تلحم مكونات النص. والأكيد أن العربية لن يضيرها هذا التعدد اللغوي وهذا الزخم من الأنظمة العلاماتية، بل يشكل إثراء لها، وتطعيما لمكوناتها. ويعد هذا دفاعا عن تعايش المختلفات وتجاوزها بدل اجتثاث النقيض وتهميشه، وتبنّيا لنظرة باختين حول الخطاب المهجن أو البوليفوني. أما على مستوى القضايا المطروقة والظواهر المتناولة، فيتجه المنجز إلى النظرة الساخرة لمنظومة القيم السائدة التي تستند إلى الموروث التقليدي في غياب مطلق للعقل وتشغيل المنطق. وهو اتجاه يوضح عدم رضى الكاتبة عن حالة الاطمئنان المخيفة التي يتبناها الإنسان العربي تجاه ما يفكر فيه؛ وما يستهلكه من قيم، وكأنه أجوف خال من العقل. لقد أدت النظرة القدسية بالإنسان العربي إلى اعتبار كل شيء ثابت يجب أن ينظر إليه مثلما نَظر إليه السابقون دون بذل أي جهد لتشغيل العقل. إن الإنسان العربي، بهكذا فعل، يحيل أقوى مميزاته البشرية على التقاعد الأبدي الذي هو العقل. وهو وضع مأسوف عليه تبعا للمنجز، وهذه هي الرسالة التي تسعى المجموعة إلى ترسيخها، والأطروحة التي تدافع عنها طيلة مسار المسرود. وتبدو الأطروحة النصية التي تنتقد الواقع وتعري بسخرية جارحة زيفه واندحار قيمه، في تجلي الصورة التي تبدو عليها حياة الشخوص ونفسياتهم، وفي اندحار تمثلاتهم حول العالم، وفي رفضهم لأحوالهم الاجتماعية. ومن هنا، كانت النظرة النقدية السلطوية للرواة تتسع راسمة، بذلك، حدود العلاقة بين الراوي والشخصية والعالم والكاتبة، والتي كلما اتسعت؛ ازدادت صور المفارقة والتوجس وتراجع النزعة الإنسانية لدى الشخوص من خلال اغتيال عزائمها وإرادتها وقوتها على التحدي والصمود من أجل الخلاص. لقد افتقدت الشخصيات، عبر النصوص، نكهة الانتصار. وكان قدرها النصي الذي سلطه عليها الرواة لإبلاغ رسالتهم هو أن تكون أبدا في ذلة الهزيمة، متجرعة سخرية العالم من حولها، متوهمة انتصاراتها في صور مزيفة الحضور: (كان دائم البحث عن الانتصارات... انتصار الفريق الوطني في مباراة دولية، حدث الأحداث. عندما لا يسعفه الفريق الوطني يلتفت إلى الفرق الجهوية، ينتقل من فريق إلى آخر إلى أن ينقذه انتصار عداء أو عداءة في ألعاب القوى. حتى انتصاره في لعبة الضومينو يصيره حدثا». لقد باتت الشخصية تبحث عن طعم الفوز خارج نطاق الذات والجسد، في أي شيء تراه كفيلا بتحسيسها بهذه النشوة المفقودة. ولا أنسى الإشارة إلى أن الكاتبة، عبر هذه المجموعة، تحاور أيضا الجسد، وتحفر ترسباته النفسية العميقة لدى الرواة والشخوص معا، وكأنها تعمل حفريات أركيولوجية في ذاكرة هذا الجسد. ولئن كان الجسد الأنثوي بأسئلته الفضفاضة والمتداخلة معنيا أيضا بهذه الحفرية؛ فإن أطروحة المرأة أو ما يصطلح عليها البعض النسوية (Féminisme) لا تشكل، عبر التصور الذي تقترحه المجموعة إلا عنصرا ضمن نسق متجانس من القضايا العالقة التي يمثل الرجل أيضا جزءا من معادلتها. ذلك أن المرأة والرجل معا عانيا، بصورة تجعل كلا منهما يبدو بأنه سبب مأساة الآخر، من مؤامرة التاريخ التي يصنعها الإنسان نفسه باجترار أفكار ورؤى وتقاليد الآخرين. إنها تجاوز محنة الجسد الثقافي ككل. ذلك الذي تتفاعل فيه مكونات اللغة، العادات، السلوكات، الأفكار، اللباس، تواصل البشر، العلم، المحكيات الكبرى، الغرائز، السيكولوجيا...وغير ذلك. لقد نجحت فاتحة الطايب في اقتراح طبق قصصي دسم أمام القارئ المتعدد. ولئن كان هذا الطبق قد هُيّئ، عن قصد نقدي حساس، بصيغة تتعب المتلقي، وتشغله في إعادة تركيب المتن مختل الترتيب والتوازن السيروري لبنية المحكي، ويتأسس على محكي يتجاوز السرد إلى النقد والتأمل، فقد يجد فيه كل باحث ضالته: المحكي الإثنوغرافي، اللّسني، التاريخي، الفلسفي، التخطيب السردي، البعد التداولي، المنحى السيميائي... وغيرها. ودون شكّ، ستثري هذه التجربة ما تراكم، في المغرب وفي العالم العربي، من حساسيات سردية تمزج بين التطلعات الدلالية للعصر، والرهانات التجريبية لشكل بناء القصّة في أفق مسايرة مسلسل التطورات اللامهادنة التي تعصف بالعالم.