منذ أن أسس سنة 1959، عندما كان تلميذا في مراكش، مجلة «مرآة»، وهو «ينط»، مثل والده لاعب السيرك، ببراعة من جريدة للشيوعيين إلى أخرى لليبراليين، واضعا أقلامه وأفكاره رهن إشارة مهنة المتاعب. فوق كرسي الاعتراف، سيحكي قيدوم الصحافيين المغاربة عن تجربته في الحزب الشيوعي، وعن مرحلة دراسته في موسكو، ثم عودته إلى المغرب، وكيف جمع، في نفس الفترة تقريبا، وبانسجام، بين التعاون مع مجلة «أنفاس»، التي أغلقت واعتقل ناشرها بتهم ثقيلة، وبين العمل في وكالة شبه رسمية هي «وكالة المغرب العربي للأنباء». مع عبد الله الستوكي سنتعرف على تاريخ الصحافة المغربية، ما بعد الاستقلال، عبر الوقوف عدد من المنابر التي اشتغل فيها أو تفاعل معها. ومن خلال ذلك سنتعرف على كواليس السياسة والسياسيين في هذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ المغرب. على كرس الاعتراف سيحكي الستوكي عن تجربته في تأسيس صحافة «الأحزاب الإدارية»: «الميثاق» و«المغرب»، ثم لاحقا «رسالة الأمة»، مضيئا مجموعة من التفاصيل التي ظلت معتمة، بحكم طبيعة تأسيس هذه الأحزاب والجرائد، التي كانت تنطق باسمها. كما سيتحدث الستوكي عن تجاربه الإعلامية الدولية، ويكشف عن وجه المثقف الذي ظل متواريا خلف صفة الصحافي حامل الخبر. - قبل أن تغادر جريدتي «الميثاق» و»المغرب»، لساني حال حزب التجمع الوطني الأحرار، في بداية الثمانينيات، هل عشت انشقاق الحزب وخروج الحزب الوطني الديمقراطي من صلبه؟ لقد تابعت ذلك عن بعد، ففي 1981 كنت قد غادرت إعلام التجمع الوطني للأحرار. لكن قبل مغادرتي له، كانت بوادر الانشقاق بادية على الحزب، فأولئك الذين سيؤسسون في ما بعد الحزب الوطني الديمقراطي، كان يحركهم الجنرال أحمد الدليمي، وقد كانوا مهمشين داخل حزب التجمع الوطني للأحرار وكانوا يُنعتون بمجموعة «العروبية»، لذلك فانشقاقهم عن عصمان يبقى، في تقديري، انشقاقا عرقيا إثنيا أكثر منه انشقاقا سياسيا. - هل كنت تلمس، وأنت مدير لإعلام التجمع الوطني للأحرار، تهميشا لأرسلان الجديدي أو عبد الله القادري أو خليهن ولد الرشيد، مثلا؟ نعم، كنت ألمس ذلك في عدة جوانب، لعل أبرزها استفراد النخبة المدينية بالقرار والمسؤوليات داخل «التجمع». وعندما تأسس الحزب الجديد برئاسة محمد أرسلان الجديدي، أدركت أن المجموعة المؤسسة له حصلت على الضوء الأخضر للانشقاق عن أحمد عصمان وتأسيس كيان حزبي خاص بها. وقد كان هذا الانشقاق بمثابة ثورة داخل حزب التجمع الوطني للأحرار، وهي ثورة كانت مدعومة من طرف القصر. ولقد أسعد هذا الانشقاق العديد من الفاعلين السياسيين الذين كانوا منزعجين من هذا الحزب الأخطبوطي الذي كان يحصد الأغلبية الساحقة في الانتخابات. - هل كان القصر قد أصبح منزعجا من عصمان وحزبه الكبير؟ لو لم يعط القصر الضوء الأخضر لجماعة أرسلان الجديدي والقادري وولد الرشيد للانشقاق، لما تمكنوا من ذلك أو لكانوا انسحبوا دون أن يعيرهم أحد اهتماما يذكر.. لقد أراد القصر أن يقلم أظافر التجمع الوطني للأحرار عاملا بمنطق فرّق تسُد. - ألم يحاول أرسلان الجديدي، أو غيره من الحزب الجديد، الاتصال بك لإدارة جريدة الحزب الوطني الديمقراطي؟ لا، وهذا كان دليل احترام لي من قبلهم، إذ إنهم كانوا يعرفون أنه ليس ممكنا استقطابي ولا استقطاب حتى عدد من زملائي المحترمين الذين كانوا يعملون في جريدتي التجمع الوطني للأحرار.. وبالمقابل، فقد اختار الحزب الوطني الديمقراطي «مرتزقة» ليعملوا معه (يضحك). - لنعد إلى مسؤوليتك عن صحافة التجمع الوطني للأحرار.. لقد اشتغل، في «الميثاق» أساسا، العديد من الصحافيين العراقيين والسودانيين؛ لماذا تم اللجوء إلى استجلاب صحافيين أجانب؟ صحيح ما تقوله، وأنا من أشرف على التحاق الصحافيين العراقيين والسودانيين بالجريدة. - هل كان ذلك لاعتبارات مهنية تحريرية أم لتقليص كتلة الأجور؟ لا، لقد استعنا بهم لإغناء التجربة الإعلامية الفتية. أما من الناحية المادية، فينبغي أن أذكر أمرا مهما، وهو أن أحمد عصمان كان يسمع بأن عبد الله الستوكي يؤدي أجورا عالية للصحافيين، وعندما سُئلتُ عن السبب أجبته بأن مدراء الدواوين الوزارية يتقاضون أجورا محترمة، وأن الصحافيين المهنيين يجب، في تقديري، أن يتقاضوا أجورا لا تقل عن أجور هؤلاء الموظفين ومسؤولي الدواوين الوزارية، علما بأن الصحافيين كانوا يتقاضون حينها أجورا زهيدة ومخجلة. - هل كانت أقل من ألف درهم؟ نعم، أقل من ألف درهم، لذلك حرصتُ على الرفع من مستوى الدخل المادي لزملائي حتى أحفزهم على أداء جيد، وأيضا لكي تُعطاهم القيمة الاعتبارية التي يستحقونها. الآن وبعد مرور كل هذه السنوات على ذلك، أشعر بالاعتزاز بما قمت به حينها. - هل كان أحمد عصمان متفهما لاستراتيجيتك هاته في الرفع من أجور الصحافيين؟ تفهم ذلك بصدر رحب. - في ما يخص الصحافيين العراقيين والسودانيين، من أين أتتك فكرة تشغيلهم ب»الميثاق»؟ لقد كانوا مستقلين عن الصحف المغربية وعن الأحزاب الناطقة باسمها، وبالتالي فإنهم كانوا مناسبين للعمل في الجريدة. وأريد أن أذكر كذلك أن السودانيين على وجه الخصوص كانوا يتعاملون معي ومع باقي أعضاء هيئة التحرير باحترام وتقدير، كما أنهم كانوا يتكيفون مع الأجواء المغربية بشكل جيد إلى درجة أنهم صاروا يتحدثون الدارجة المغربية؛ أما العراقيون فكانوا أقل اندماجا. - من بين الأسماء الأدبية والمسرحية المعروفة التي اشتغلت في صحافة التجمع الوطني للأحرار، كان هناك سعيد الصديقي، المعروف ب»عزيزي»؛ اِحك لنا بعض ذكرياتك مع هذا الكاتب الساخر؟ كان سعيد الصديقي كاتب رأي جيدا، وقد كان يكتب أعمدته وهو جالس في مقهى/حانة «جور إي نوي» أو «لومارينيون»، فكنا نبعث إليه بأحد الصحافيين ليستلم منه مقاله حيث هو. وعندما كان ذلك الصحافي يجد، أحيانا، أن الصديقي لم ينته بعد من كتابة مقاله، كان يجلس إلى جانبه في انتظار أن يفرغ من كتابته؛ فالصديقي لم يكن يحبذ القبوع في المكتب، وهو ما تعود عليه منذ أيام اشتغاله في جريدة «الطليعة» (لسان حال «الاتحاد المغربي للشغل» والتي كان سعيد الصديقي رئيس تحريرها)، إذ كان مكتبه هو الحانة «البار» التي كان يسميها: «ابننا البارّ». وقد كان سعيد الصديقي كاتب أعمدة ممتازا باللغة الفرنسية، كما كان كاتب «رباعيات شعرية» نشَر عددا منها في «الميثاق»، وقد كان يتقن الكتابة باللغتين: الفرنسية واللغة العربية. وحسب ما بلغني مؤخرا، فإن بعض أصدقائه يشتغلون الآن على جمع تلك «الرباعيات» بين دفتي كتاب. - اقترن اسم سعيد الصديقي بالطرائف والمقالب واللعب بالكلمات، منها تسميته للحانة ب»ابننا البار» كما أسلفت؛ تحدث لنا عن بعض من ذلك؟ أذكر مثلا أنه كان يطلق على منصب وزير بدون حقيبة «Ministre sans portefeuilles»، وحينما كنا نجلس رفقته في مقهى «ماجستيك» بالرباط كان يقول إنه يريد أن يكون وزيرا ل»سا.. ماجيستيك» مع حقيبة «Ministre de sa Majestic avec portefeuilles».